يبدي الباحثون في مجال السلام وتسوية الصراع في السنوات العشر الأخيرة اهتماما متزايدا بالدور الرئيسي الذي يلعبه الاعتراف والصفح في التوصل الى حل دائم بين الأطراف المتصارعة. وينطوي الكثير من الصراعات المزمنة في العالم على حلقة تاريخية مفرغة من الظلم والاضطهاد والانتقام. وتتأصل هذه الصراعات، التي يمكن أن يكون لها نتائج سياسية بعيدة المدى، في الآلية النفسية التي يطلقها الاضطهاد أو التعرض له. ويمكن القول ان العنصرية و"التطهير العرقي" ما هما الا من بين التعبيرات الأكثر درامية عن دورات الاضطهاد والانتقام هذه. ونجد في العادة ان الضحية، بدل أن تقوم بذلك النوع من التناول الواعي الايجابي لتجربتها المريرة للتغلب على الاثار التي يتركها لها الاضطهاد، تترك لنفسها ان تنحدر الى مهاوي اليأس والغضب، ما يقودها في النهاية الى تسليط العنف ضد كل من تجد قربها، صديقا كان أم عدوا. ان مفهوم "الضحية والجلاد" ضروري لتناول الصراعات التي تمتد زمنا طويلا، سواء كانت فردية أم ذات طابع سياسي. ان التغلب على المشاعر المتأتية من القيام بأي من الدورين، وهي للأسف مشاعر متأصلة في الانسان، هو الخطوة الأهم في الاتجاه نحو البرء من ذلك الجرح التاريخي أو الشخصي. ويبرز نمط السلوك السلبي والتخريبي هذا في الكثير من الصراعات التي تدور في عالم اليوم، من يوغوسلافيا السابقة الى شمال ايرلندا ورواندا وبوروندي والصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، وأيضا بالطبع في الصراعات الداخلية مثلما في لبنان الحرب الأهلية. "الصفح" و"التصالح" تعبيران نجدهما غالبا في سياقات دينية أو أخلاقية أو روحية، ولذا لا يبدو انهما ينتميان الى قاموس العمل السياسي أو حل الصراعات او الديبلوماسية. لكن كما لاحظت الفيلسوفة هانا ارندت قبل اكثر من ثلاثين سنة فان "من طبيعة تقاليد الفكر السياسي لدينا ان يكون انتقائيا ويستبعد عن مفاهيمه المحددة تشكيلة كبيرة من التجارب السياسية الحقيقية"، من بين اهمها القدرة الانسانية على الصفح والعمل الواعد الذي يمكّن البشر من التعايش مع خيبات وآلام الماضي اضافة الى غموض المستقبل. وتركز ارندت في سياق بحثها في المغزى السياسي للصفح على ان "الصفح هو قوة انسانية... واذ لا ننال الصفح، ونتحرر من نتائج ما فعلنا، فان قدرتنا على الممارسة ستقتصر على فعل واحد لا يمكننا الخلاص منه". تبدأ عملية الصفح والتصالح بخطوتين أساسيتين مترابطتين: الاعتراف والاعتذار. ويعني الاعتراف ادراك الطرفين بأن شيئا سلبيا حصل بينهما، وجاء بآثار مدمرة لهما او لواحد منهما. اما الاعتذار فيأتي على اساس هذا الادراك والاعلان عن طبيعة الانتهاك للقواعد الاجتماعية أو المباديء الاخلاقية والتعبير المخلص عن الندم للضحية. ويقدم نيكولاس تافوتيس في كتابه الرائد "انا المذنب!" الخطوات اللازمة للاعتذار الكامل. ويعرّف الاعتذار بانه "اجراء كلامي" هو "أيّ من الأعمال التي يقوم بها المتكلم عند النطق، ويقرر أو يسأل أو يطلب أو يقنع، وذلك حسب مضمون الرسالة، وهدف المتكلم، والتأثير في السامع". وتتطلب الخطوة الأولى في عملية الاعتذار "اشارة صريحة الى الانتهاك أو ايماءة تفترض معرفة مشتركة بالموضوع. مثلا، ان ما فعلتُ أو فعلتَ أو قلت كان خطأ مؤذيا لا يمكن التسامح معه". ثانيا، هناك الاعتذار نفسه، وجوهره التعبير عن الحزن والندم. والخطوة الأخيرة في المعادلة هي نوعية تجاوب الضحية: أي القبول وتحرير المذنب من الذنب، أو رفض الاعتذار والمعتذر، أو تسجيل الاعتراف مع ارجاء البت في شأنه. هذه التعاملات تدور عادة بين الأفراد. وتختلف دينامية ومضامين الاعتراف والاعتذار على المستوى الفردي المباشر عنها على مستوى العلاقات بين المجموعات الاثنية أو الدول. وهناك عملية مشابهة تدور داخل الدول التي خرجت من مرحلة طويلة من الحكم الديكتاتوري، حيث يطالب الكثير من هذه المجتمعات المتحررة من الديكتاتورية، سواء كانت عسكرية كما في اميركا اللاتينية أو سياسية كما في أوروبا الوسطى، بمؤسسات رسمية للمساءلة عن جرائم الماضي وامكانات التعويض المالي والمعنوي. ويشكل السؤال عن الجهة التي عليها القيام بهذه المهمة الصعبة ركنا مهما من عملية الصفح والتصالح. لاحظ ستانلي كوهين في دراسة صدرت أخيرا ان "ما حصل في تشيلي وسلفادور لا يشابه ما حصل في تشيكوسلوفاكيا أو جنوب أفريقيا. لكن هناك عددا من المشاكل المشتركة في اعادة أو اقامة الديموقراطية والمجتمع المدني وحكم القانون. وتدور هذه المشاكل على القضية الخطيرة والمتعبة والمثيرة للانقسامات الموسومة ب "السيطرة على الماضي". والسؤال هو عن كيفية التعامل مع انتهاكات حقوق الانسان والمجازر والمظالم التي ارتكبها النظام السابق؟ وكان الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية شكلوا محكمة نورمبرغ لادانة مخططي ومنفذي جرائم النازيين الحربية. وتشكلت في أميركا اللاتينية هيئات "الحقيقة والعدالة" لتشخيص الجنرالات والجنود المسؤولين عن اعمال القتل والتعذيب والخطف التي طالت المئات من المواطنين. وتجري عملية مشابهة في جنوب افريقيا بعد زوال نظام العزل العنصري تقوم بها "هيئة الحقيقة والمصالحة". لكن عملية "السيطرة على الماضي" تعاني من نواقص مهمة، ذلك ان الجهاز القضائي عادة هو من يتدخل في النزاعات بين الافراد ليحدد الانتهاكات ويقرر التعويض. اما في حال جنوب افريقيا وأميركا اللاتينية فنجد مشاركة عدد من قطاعات المجتمع المدني مثلا المنظمات النسائية والهيئات الدينية ومنظمات حقوق الانسان في الجهود للكشف عن الحقيقة ومساعدة ضحايا الديكتاتوريات السابقة. لم يشهد لبنان حتى الآن الاعتراف المتبادل بالجروح التاريخية وما ينتج عنه من شعور التحرر من أهوال الماضي. ولا تزال غالبية الطوائف ال17 في لبنان في الحداد على موتاها اذ تحاول مواجهة الاثار النفسية والمادية لفقدهم. ويأتي هذا الافتقار الى الشفاء من اثار الحرب الأهلية، في قسم كبير منه، من عدم تقدم الدولة أو القيادات الدينية أو قطاعات من المجتمع المدني نحو كشف ومساءلة كاملين علنيين عن المجازر والمظالم التي شهدتها الحرب. ولم يصدر، الا في حال المحاكمة الوحيدة المذكورة اعلاه عن جرائم الحرب، أيّ اعتراف رسمي بالانتهاكات أو تحديد للمسؤوليات. ويعيق هذا الافتقار الى الاعتراف عملية تطهير الذات والتفاهم والتصالح، الضرورية للتوصل الى حل دائم لصراعات لبنان الخامدة الآن، لكن التي لا تزال خطيرة. ونجد الى اليوم، بعد سبع سنين على انتهاء الحرب، ان الكثير من القرى المسيحية في جبال الشوف التي يسيطر عليها الدروز لا تزال خالية، اذ ان ليس لغالبية القرويين المسيحيين ما يكفي من الثقة بنوايا الدروز للعودة، في ما يبادلهم الدروز التشكيك نفسه. وقد يكون من بين سبل التغلب على هذا المأزق النفسي والسياسي الخطير الاعتراف المخلص والواضح من قبل الزعماء العسكريين للطائفتين بالجرائم والمجازر التي ارتكبوها هم واتباعهم اثناء الحرب الأهلية. ولا يمكن لهذه العملية ان تتم الا اذا قامت الحكومة والقيادات الدينية بجهود منسقة على الصعيدين السياسي والفردي من أجل التصالح. من النواقص الأساسية التي يعاني منها لبنان وغيره من البلدان النامية المتعددة الثقافات والاثنيات غياب شعور قوي بالهوية الوطنية وكذلك الافتقار الى الاجماع على حكم القانون. هذا النقص المزدوج يصيب اليوم الكثير من المجتمعات التي تزداد فيها سيطرة الأقليات. ومن المسببات الرئيسية لضعف وعدم استقرار الدولة في المجتمعات التعددية اللا غربية استمرار انماط الانتاج الاقطاعية وانتشار علاقة المحسوبية التي تؤثر في كل اصعدة العلاقات الاجتماعية. ويمكن اعتبار ذلك من بين مخلفات الحكم العثماني في الشرق الأوسط وشرق ووسط أوروبا. وكانت السلطة العثمانية تتعامل مع رعاياها من غير المسلمين حسب "النظام الملّي" الذي يقوم على الصفة الدينية لهؤلاء، حيث تقوم الهيئات الدينية العليا لكل طائفة بادارة شؤونها الخاصة. ولذلك كان الأفراد يشعرون بالانتماء الى قياداتهم الدينية أكثر مما للدولة. وليست الدولة الوطنية سوى المظهر الخارجي للبنان بطوائفه ال 17 والذي هو من المخلفات الحية لذلك النظام القديم، حيث الوحدة الاساسية للانتماء والعمل السياسي هي الطائفة الاثنية - الدينية وليس الدولة أو الوطن. ولهذا الواقع تأثير عميق في عملية المصالحة. لأن نظاما كهذا، على رغم انه يوفر للأفراد الاستقرار النفسي والخدمات الاجتماعية ضمن مجموعاتهم، يشجع على الصراع والعنف والتنافس والعداء والفوضى على مستوى الدولة. الدرس الآخر من لبنان هو ان على العملية المؤدية الى المصالحة الاعتراف، الاعتذار، التعويض، المصالحة أن لا تقتصر على مستوى العلاقات بين الطوائف بل تتجاوز ذلك الى مستوى الافراد. وهناك حاجة ملحة لتقوية المواطن اللبناني عن طريق دعم الاحساس بالمسؤولية وقيمة الذات والثقة والقابلية. ويشعر الكثيرون من اللبنانيين بأنهم تحولوا الى ضحايا ليس فقط لميليشيات الطوائف المتصارعة بل ايضا ميليشيا طائفتهم. وكان معظم اللبنانيين خلال الحرب الأهلية في موقف المشاهد البريء الذي اجبر على الانضمام الى هذا الطرف أو ذاك والمشاركة في الصراع، دون خيار آخر سوى الانصياع او التعرض الى العزل أو التشريد أو حتى الموت. الدرس من لبنان في ما يخص نظرية وأبحاث الصراع هو أنه ليس لعمليات ووسائل التوصل الى حل ان تكون مفيدة وفاعلة الا في حال توافر التقبل الثقافي والنفسي لها. ومن المشاكل الرئيسية في نقل النماذج الغربية في حل الصراعات الى المجتمعات غير الغربية ان عمليات التسوية في المجتمعات الغربية مستنبطة من أوضاع سياسية اجتماعية تكون الوحدة التحليلية فيها عادة الفرد بذاته. اما في المجتمعات القائمة على الهويات الاثنية او الدينية فان الطائفة أو القومية تلعب في التحليل دورا مساويا في الاهمية للفرد. وبصرف النظر عن النظرية المعتمدة او التقنية المستعملة، فان حل الصراع لا يتحقق من دون تناول شعور الغبن التاريخي والتخفيف منه. وعلى الديبلوماسيين والوسطاء المهتمين بعملية التصالح والصفح ان يستكشفوا مختلف سبل شفاء جروح الماضي، مثل تقنية "جولات في التاريخ"، اي اعادة مشتركة لكتابة التاريخ تسمح للمجموعات المتخاصمة بالاعتراف بتاريخها وما يحمله من الألام المتبادلة. وعلى كل مجموعة ان تقوم ب"جولة" في مشاعر الطرف الآخر ومنظوره ومخاوفه وتنميطاته. ويجب ان يتم ذلك بمحض الارادة وفي محيط آمن تحت اشراف وسطاء عميقي الخبرة من البلد نفسه. وهذا الوضع، للاسف، لا يزال بعيدا عن لبنان خصوصا والشرق الأوسط عموما. ففي هذه المنطقة المتفجرة هناك طبقة بعد اخرى من الحقد والخوف والتشكيك نتيجة التواريخ المتشابكة من الاضطهاد التي تزيد تعقيدات العلاقات بين الدول وداخل كل منها. مثلا، ما يملي على اسرائيل منظورها وممارساتها هو أهوال المحرقة، فيما تصوغ تجربة الفلسطينيين القاسية، بكل ما فيها من التشريد والحرمان من الحقوق والسلب، منظورهم وممارساتهم السياسية. وفي لبنان تحمل كل من الطوائف عبئا ثقيلا من الجراح التاريخية وقوائم طويلة من الادانة للطوائف الاخرى. اذا كان لخطوة الصفح والتصالح ان تدوم وتتجذر في لبنان والشرق الأوسط فيجب ايلاء الجوانب النفسية لكل الصراعات المتشابكة في المنطقة الاهتمام الكامل. اذ ليس لمعاهدات السلام، اذا لم تقم سوى على الاعتبارات الاقتصادية او الضغط السياسي او المتطلبات الاستراتيجية، أن تدوم ما لم تترافق مع استكشاف مفصل وعميق لتركات الخوف والحقد والألم والتشكيك الناتجة عن عقود من الحروب والدورات التي لا نهاية لها من الاضطهاد والانتقام. ولا يمكن التوصل الى السلام او المحافظة عليه ما لم تتعامل الفئات المتحاربة مع الجذور النفسية العميقة لصراعاتها. ولن يمكن كسر دورات الانتقام المهلكة حتى يبدأ الأفراد والمجتمع المدني عموما والمجموعات الدينية والحكومات بالاهتمام بالامكانات التي تقدمها عملية الاعتراف والاعتذار والصفح والتصالح، داخل كل من شعوب الشرق الأوسط وفي ما بينها. وبعد كل هذه السنين الطويلة من دوامة الاضطهاد والانتقام، حان الوقت ليستمع اللبنانيون والسوريون والاسرائيليون الى كلمات مارتن لوثر كينغ الحكيمة: "علينا اما نتعلم العيش سوية كأخوة، او سنموت كلنا كحمقى"!