شغل موضوع العلمنة والدين حيزاً كبيراً ومهماً في حياة المجتمع الحديث منذ بداية هذا القرن والى يومنا هذا، فهو موضوع اهتمام الحكومات والشعوب في الشرق والغرب، وهو في جدول اعمال الحركات السياسية والمؤسسات الدينية والاجتماعية على اختلاف مشاربها الفكرية، كما هو موضوع اشبع بحثاً ومناقشة على اعمدة الصحف وفي أروقة الجامعات وفي المؤتمرات وحتى البيوت والمقاهي. وقد سفكت من اجله الدماء، وسقطت فيه حكومات ودول، دون ان ينتهي النقاش فيه الى نتيجة محددة وواضحة، رغم اهمية الموضوع وحساسيته مما استلزم ضرورة البحث فيه. وقبل ان نبدأ بتقديم مساهمة متواضعة من منظور فكري ينبثق من مفاهيم الاسلام، هناك مجموعة من المقدمات التي ينبغي تقديمها في مناقشة العلاقة بين الدين والعلمانية. ومنها، تحديد مجال او مجالات البحث: فيمكن ان يكون البحث عاماً او نظرياً او دستورياً او من الناحية القانونية او من الناحية العلمية والتاريخية وما شابهها. ومنها ايضاً، مناقشة الجوانب ذات العلاقة بينهما من خلال التجارب المعاصرة: فقد تشمل التجربة حالات قطرية او مذهبية مختلفة عن بعضها البعض حيث يتداخل فيها الدين والعلمانية ببعضها، وقد ينفصلان او يتناقضان في البعض الآخر. وليس الغرض من هذا البحث الموجز هو ببساطة اصدار فتوى او حكم بالصحة او البطلان، والحرمة او الجواز. ولكن المقصود هو عرض لبعض الافكار والآراء، مطروحة للنقاش وقابلة للنقد في محاولة لالقاء الضوء على بعض تلك الجوانب، مع التركيز على التحديات المعاصرة في اطار العلاقة بين الدين والعلمانية لتنظيم الحياة العامة، وخصوصاً في الدول ذات الاغلبية المسلمة. وهل تمثل التعددية بمختلف مفاهميها الدينية والسياسية والاجتماعية تحدياً للدين في النظم الحاكمة؟ وما يتعلق بهذا الموضوع مثل الاصولية ودلالتها ومفاهيمها والاخلاق بين العلمانية والدين. يمكن تعريف الاسلام بالمعنى الذي يجمع عليه المسلمون - وإن اختلفوا في تفاصيله - على انه الايمان بالله الواحد الاحد، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وانه خاتم المرسلين، والتسليم بكل ما جاء في القرآن باعتباره وحياً من الله، وان رسالة الاسلام هي للانسانية جمعاء الى يوم القيامة - يوم الحساب - وقد جسّد هذه الرسالة عملياً وشرحها الرسول ص بفعله وقوله وتقريره، فالقرآن والسنّة هما مصدرا التشريع للمسلمين. كما اجمع المسلمون على الدلالات العامة للقرآن وسيرة الرسول ص، وان امر الله سبحاته وتعالى الى الناس يقوم على اساس الايمان به والعمل الصالح وتزكية النفس لمصلحة المجتمع، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الشعائر وحدود الله. ومن هنا نعرف ان تكليف الاسلام للناس لا يقف عند التزام الفرد والجماعة بالحدود والشعائر، وانما المسلم مكلّف بمهمة التبليغ برسالة القرآن والبيان والوعظ والارشاد، ولكن من دون جبر او اكراه، كما يظهر ذلك جلياً من خلال عرض الآيات التالية: "ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" آل عمران/ 104، "قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان تولوا فإنما عليه ما حمّل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين" النور/ 54، "فذكّر انما انت مذكّر لست عليهم بمسيطر" الغاشية/ 21 و22، "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي" البقرة/ 256، "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" البقرة/ 272. وقد تجسد تمام هذه المعاني بشكل واضح في مجتمع المدينة الذي أقامه الرسول ص وطبّق مفاهيمه عملياً، بسيرته في تبليغه دين الله، وفي مواضع العقد والبيعة، والتولي والقضاء، وحقه الدفاع عن النفس، وحرمة الانسان مسلماً كان او غير مسلم، وقه في العيش والتعبّد بشعائره جنباً الى جنب المسلم، وقد عقد تحالفات وأبرم عقوداً مع جماعة المدينة وفيهم المسيحي واليهودي والمشرك والمنافق. وواجه المسلمون الامتحان الاول الصعب بعد وفاة الرسول ص في سدّ فراغ سلطة الافتاء والحكم، وذهب جمهور المسلمين الى تطبيق الشورى، بمقدار ما فهموه منها، حيث لم تكن واضحة المعالم بعد، ولا زالت غير متفق عليها بين المسلمين، من حيث موارد تطبيقها الى تفاصيل المرشح والناخب والنسبة المطلوبة وغيرها. ولذا نجد ان امرها قد ألغي في تعيين ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعاد ليعمل بها ضمن لجنة سداسية معينة من قبل الخليفة لانتخاب اللاحق، حتى بويع الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه من قبل جمهور المسلمين للخلافة. وبانتهاء دور الخلافة الراشدة، تميّز بوضوح منصب الحاكم عن منصب الإمام والفقيه العالم، فتميزت المرجعية الدينية في الافتاء عن المرجعية في الحكم والخلافة واقامة الحدود وحماية الثغور السلطة. كما تغيّر مفهوم سيادة الأمة وأداء البيعة، حتى اصبح الحكم بين المسلمين غلبة وملكاً موروثاً، وانتهت بانهيار الأمة وتفككها الى دول وانظمة لا تزال تفتش لها عن موطئ قدم في العالم المعاصر، متخبطة في موضوع الدين والدولة والمجتمع. ومهما بالغنا في احترام تاريخ المسلمين وحاولنا التصحيح والتلميع، فإننا لا يمكننا اعتباره مرجعاً تأسيسياً مقدساً، كما اننا مهما دافعنا عن اوضاع المسلمين اليوم فإنها رديئة وبعيدة عن مفاهيم الاسلام الصحيح عموماً في مجالاتها المختلفة وبالخصوص في اقامة الدولة الاسلامية بمعنى الكلمة. فلا بد لنا من صيانة انفسنا من تقديس ممارسات خاطئة او مغالطات وقع فيها غيرنا من قبل، ولا يجوز تحميل انفسنا وزرها، او وجوب اتباعها الاعمى كونهم اسبق منا اسلاماً، وانهم السلف بالنسبة لنا ونحن السلف لمن يخلفنا، ذلك لأنهم اسبق منا زماناً ولا غير، كما نحن لمن بعدنا. فالاسلام هو الاسلام ولنا ان نجتهد في ما يجوز الاجتهاد فيه كما كان لهم ذلك، كما يلزمنا البحث والعمل لتحديد وبيان المفاهيم الاسلامية الاصيلة والصحيحة في هذا الموضوع الحيوي المتجدد دوماً في محاولاتنا لتحسين اوضاع المسلمين عامة فعندما نلاحظ: أ - ان تاريخ المسلمين لا يعبّر بالضرورة او الملازمة الحتمية عن الاسلام، وانما كان حصيلة اجتهادات واختلافات أجيال عدة من المسلمين. ب - انه لا توجد مرجعية افتاء ولا مرجعية سلطة منصوص عليها عند الغالبية العظمى من المسلمين. ج - معاناة الأمة وعلماء الدين من السلطة، او معاناة الامة والسلطة من بعض العلماء المنغلقين والحرفيين في التعامل مع الاحاديث. د - عدم إمكان المقارنة بين بنية المجتمعات والدول المعاصرة وبين بنية المجتمعات القديمة. ه - صعوبة تبسيط مشاكلنا اليوم على ضوء مجتمع المدينة المؤسس لتجربة الاسلام الاولى وبحضور النبي ص. وبالنظر الى هذه الامور وغيرها من الملاحظات، يلزمنا تجاوزها عن طريق العلم والعقل، بالانفتاح والحوار المستمر بين جميع الاطراف للوصول الى الركب المعاصر الحديث، وخصوصاً ما نمتاز به كمسلمين من وجود كتاب الله العزيز بين ايدينا من دون زيادة او نقصان، هدى ونور للعالمين، وكذلك امكانية الوصول الى الصحيح من سنّة النبي ص بفضل حركة الاجتهاد. ولا شك ان هناك مساحات واسعة ومتشابهة مشتركة بين قيم الاسلام وبقية الديانات السماوية باعتبار وحدة مصدرها، ولا شك أيضاً ان هناك تشابهاً في كثير من الجوانب التاريخية والاجتماعية، وكذلك تشابه نمط العيش ضمن سيادة دول وانظمة مقننة، وتشابه نمط الانتاج والاستهلاك، وشيوع طرق الاتصالات والمواصلات. الا ان هذا التشابه لا يعني بالضرورة التشابه في المشاكل السياسية في هذا الموضوع، وما واجهه الغرب في العلاقة بين الدين والمجتمع والدولة ليس بالضرورة نفس المشاكل التي يواجهها المسلمون كما يتصور البعض، من ان التداخل بين الدين والحياة العامة هو سمة التاريخ حلولها ايضاً متشابهة، وان تطور المجتمعات وحركة التاريخ هي التي سمحت بهذا التداخل ثم منعته الشعوب بسبب الضرورة، وبالتالي تصدق المقولات والتجارب الاوروبية مع الديانة المسيحية مثلاً على الاسلام ايضاً. فالحقيقة هي اختلاف الاسلام عن بقية الاديان والمسيحية بالخصوص، كونه يقدم نظرة واضحة محددة عن معنى الدين في حياة المسلمين من مصادره التأسيسية الاولى - وان ابتعد المسلمون عنها فيما بعد - اي تميز الاسلام عن المسيحية من خلال وجود القرآن الكامل من دون تلاعب فيه، او زيادة او نقصان بين ايدي المسلمين جميعاً، وكذلك امكانية الوصول الى السنة النبوية الصحيحة، وهما مصدرا تشريع الاسلام، بخلاف المسيحية التي تغيّر وتعدّد كتابها المقدس، وبوجوده لم يكن فيه احكام وتشريعات وحدود كما في القرآن، وانما هو مجموعة من قصص تاريخية واخلاقية، تجمع مصادرها على مقولة "ترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر متى 21/22. على ان سلطة الكنيسة قد ولدت في ما بعد بسبب تفكك وضعف وانهيار الدولة الرومانية، ووجود الفراغ في السلطة الذي ملأته الكنيسة ووضعت أسسه الفكرية في القرن الثالث الميلادي. وعلى هذا فلا يمكن بالقياس البسيط المقارنة في المشاكل او الحلول بالنسبة الى الاديان كافة، وانما لو اردنا تقييم ملاءمة مشاريع العلمنة في بلدان المسلمين من عدمها، فلا بد من مراجعتها بصورة دقيقة ومعاينة اشكالاتها، وبمراعاة الخصوصيات ليس كما عرفتها اوروبا. وبعيداً عن الاصطلاحات اللغوية والعلمية او الشرعية، وبغض النظر عن التاريخ وتأثيره في المجتمعات، لا اشكال ولا ريب بأن المسلمين اليوم مختلفون في فهم الدين كشريعة، كما هم مختلفون في كيفية تطبيقه، مثلهم في ذلك مثل اتباع الاديان الاخرى، ومثلهم في ذلك اتباع العلمانية، فهم مختلفون في المعنى، وهل تعني العلمانية رفض الدين ومنعه كما هو الحال في الشيوعية التي اعتبرت الدين "أفيون الشعوب" فبدأت بمحاربته حتى سقطت هي وبقي الدين رغم جميع محاولات التشويه؟ او هل تعني العلمانية عدم وجوب فرض الدين وأحكامه؟ فتكون القوانين المدنية مستمدة من العلم والتجارب الاجتماعية، وما يوافق رأي الاكثرية بما فيه التشريعات والاحكام الدينية. كما الأنظمة العلمانية الحاكمة منها مختلفة في التطبيق فأميركا العلمانية هي غير فرنسا العلمانية وبفروقات كثيرة، فنجد مثلاً المساعدات المالية والتسهيلات الضريبية وغيرها للمؤسسات والمدارس الاسلامية في اطراد وانتشار في اميركا، في حين تمنع فرنسا ارتداء الحجاب الاسلامي لبنات المسلمين في المدارس الحكومية. كما تفترقان معاً عن الانظمة الإلحادية الى حدّ التناقض. فإذا كان المقصود من العلمانية الفرض الاول اي عدم وجود الدين فهو امر مرفوض يتنافى مع الدين، كما يتنافى مع العقل ايضاً كونه مخالفاً للحرية المطلقة التي تنادي بها العلمانية نفسها. اما اذا كان المقصود من العلمانية الفرض الثاني اي العلمانية بلا شرط فهو ما يعني التعددية وقبول الرأي الآخر والنظر في ما هو صالح للمجتمع من عدمه مع اخذ الدين واحكامه بنظر الاعتبار، فهذا مما لا مانع منه ولا يتنافى مع الدين، بل هو المطبق عملياً في معظم البلاد الاسلامية، ولعل اصدق نموذج في البلاد العربية هو لبنان، كما هو حال المسلمين اليوم عموماً في بلاد الغرب العلمانية. وبمعنى آخر "لو اعتبرنا مكونات الحضارة الجديدة العلمانية متكونة من: أ - انجازات العلم التجريبي. ب - التنظيم المجتمعي الدقيق. ج - قيام العلاقات الانسانية على مبدأ المصلحة ومبدأ بقاء الأصلح. فيلاحظ فيها جوانب من الخير وجوانب من الشر، فلا ينبغي ان يحملنا ما فيها من شر على حرمان انفسنا مما فيها من خير، كما انه يتفق مع الاسلام في الجانب المادي منه، وهو قبول انجازات العلم وتنظيم المجتمع الدقيق، ولا يتنافى مع الاسلام بوجه من الوجوه، بل ان الامر على العكس من ذلك، خاصة في ما يعود الى مسألة انجازات العلم التجريبي في مجالات الطبيعة. فالاسلام من خلال الكتاب والسنّة والفقه يدعو المسلمين الى ضرورة توفير هذا العنصر في حياتهم ولكن وعلى خلاف ذلك فان الجانب المعنوي من هذه الحضارة يخالف الاسلام وينفيه" محمد مهدي شمس الدين - العلمانية. وهو الجانب الفلسفي الذي يعتمد على مبدأ المصلحة الآنية لطبقة معينة من الناس. ومع ذلك فلا يمنع هذا من الحوار والعمل المشترك في ما بين المسلمين وغيرهم على اساس المصلحة العامة للأمة واستقرار المجتمع، واعطاء كل ذي حق حقه. كما طبّق ذلك المسلمون عملياً في المدينة وايام الفتوحات الاسلامية في الاندلس وغيرها، وكما هو عليه حال غير المسلمين اليوم في معظم البلاد الاسلامية، وحال المسلمين في البلاد غير الاسلامية. "لأن الاسلام يريد لكل قيمة من قيمه ان تأخذه مكانها الطبيعي في حياة الناس، سواء بطريقة منفردة او متصلة بالحل الاسلامي الشامل، بغض النظر عن الاداة التي تشارك في ذلك، كما يريد للمصير ان يقوى ويتأكد ويأخذ دوره الفاعل في صنع القرار، سواء قام به المسلمون من خلال جهدهم الخاص، او شاركهم فيه غيرهم. ولعلنا نستوحي ذلك من تقييم النبي ص لحلف الفضول، ودخوله في اتفاقات ومعاهدات مع المشركين من قريش، ومن غيرهم، من خلال المصلحة الاسلامية على صعيد المرحلة الزمنية المعينة، فان المسألة ليست خصوصية الحادثة، بل هي خصوصية المبدأ الذي يحكم كل الحوادث المماثلة. وعلى ضوء هذا يكون الفرق بين العلمانيين من حيث التزامهم بالدين كفلسفة او انكارهم اياه، سبباً في سعة المواقع التي يمكن الالتقاء عليها او ضيقها" محمد حسين فضل الله - الحركة الاسلامية.