أمر القرآن المسلمين ان يقيموا كياناً بشرياً دنيوياً يطبق تعاليم الدين الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الله. وعبّر القرآن عن هذا باقامة الدين كما في قوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...". الشورى 13 وإقامة1 الدين هي الايمان بجميع ما انزل الله والعمل بما يجب عليه العمل به، وهو امر مطلق شامل لجميع الناس في جميع الازمان.2 وذلك انه ليس الدين الا سنة الحياة والسبيل الذي يجب على الانسان ان يسلكها حتى يسعد في حياته.3 اما الدين فهو مجموعة المعارف والاحكام المشرعة4 من قبل الله اي انه القانون الالهي الموحى الى النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذي تتكفل سنة الرسول، قولاً وفعلاً وإقراراً، شرحه وبيانه. وهذا الدين تام كامل لقوله تعالى: "... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا...". المائدة 3 وإكمال الدين يعني ان الله اوحى كل ما هو من الدين الى النبي محمد والذي تم جمعه في القرآن الكريم. والمعنى الأول المستفاد من هذا القول هو ان كل ما هو دين موجود في القرآن الكريم، وبالتالي فالقرآن تام كامل بما هو كتاب دين. وتمام الشيء هو: انتهاؤه الى حد لا يحتاج الى شيء خارج عنه5، واما كماله فهو: حصول ما في الغرض منه.6 وإذن فكل ما نحتاجه من الدين موجود في القرآن الكريم والسنة التي تشرحه. وهذا موجود اما على مستوى التفصيل او على مستوى القواعد العامة، وكله من الدين. واما ما هو ليس موجوداً فيهما على اي مستوى فهو ليس نقصاً في الدين انما هو ببساطة ليس من الدين الذي تكفل القرآن والسنة به، انما هو من الدنيا التي يعود الينا امر تدبيرها، ويعود الينا امر ايجاده. انه امر اوكله الله الينا كبشر. فنحن لا نملك صلاحية ان نضع ديناً لأنفسنا، ولو فعلنا ذلك لكنا مشركين، لكن ما تركه الدين عامداً متعمداً، لا سهواً ولا نقصاً، فهو من الدنيا. ونحن اعلم بأمور دنيانا. ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى: "... ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء..." النحل 89 لأن المراد بپ"كل شيء" كل ما يرجع الى امر الهداية مما حتاج اليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية، بما ان القرآن هو كتاب هداية لعامة الناس.7 ففي القران كل شيء مما يرجع الى غرضه وهو هداية الناس الى الدين. وينتهي الامر باقامة الدين، اذن، الى اقامة الحياة المجتمعية للانسان على اساس ما جاء به الدين من الهدي، واما ما سكت عنه الدين من شؤون هذه الحياة فهو امر متروك للانسان. وهذا هو معنى الدولة الاسلامية: انها كيان سياسي يقيمه المسلمون على اساس الدين، لكنها ليست دولة فوق - بشرية، انها تأخذ من الدين ما جاء به، واما ما سكت عنه من امور هذه الدولة فيعود الى المسلمين امر القيام به. وهذا هو ما يسميه بعض الفقهاء المعاصرين بمنطقة الفراغ في التشريع الاسلامي. وهي ليست نقصاً في التشريع، انما هي مساحة لم يشأ الدين ان يتدخل فيها فتركها للبشر ليقوموا بملئها وفق حاجاتهم الدنيوية والزمنية ووفق خبرتهم العلمية والعملية. ويبدو هذا الكلام على اشد درجات وضوحه في الجانب الاقتصادي من حياة المسلمين. فقد قسم الفقهاء عناصر المجتمع في ضوء الاسلام الى ثلاثة أقسام هي: العناصر الثابتة في مجال التوزيع وفقاً لمبادئ العدالة الاجتماعية والخلافة العامة للانسان على الأرض. وهذه العناصر وضعت في الاسلام على شكل احكام منصوصة في الكتاب الكريم والسنة. والعناصر المتحركة في مجال التوزيع وتنظيم علاقاته تدعو اليها الضرورة بسبب المستجدات والمتغيرات في عملية الانتاج وملابساتها. وقد وضع الاسلام قواعد او مؤشرات عامة لهذه العناصر تقوم السلطة الاجرائية في المجتمع بالاسترشاد بها للوفاء بمتطلبات هذا القسم. والعناصر المتحركة الزمنية المتعلقة في مجال الانتاج وتحسينه وتطوير ادواته وتنمية محصوله وهي متروكة للدراسات العلمية وأحدث ما وصلت اليه الخبرة البشرية في هذا المجال. وعلى الدولة ان ترسم سياسة اقتصادية للانتاج تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات.8 وأقر الامام الخوئي بأن الجهاد منوط بتشخيص المسلمين من ذوي الخبرة في الموضوع، وان على الفقيه ان يشاور في هذا الامر المهم اهل الخبرة والبصيرة من المسلمين حتى يطمئن بأن لدى المسلمين من العدة والعدد.9 وقد يمكننا من هذا المنطلق ان نفهم العلاقة بين الدين والدولة في الاسلام او بين ما هو زمني وما هو ديني في دولة المسلمين. ان الدين يتدخل في دولة المسلمين بقدر ما هو من شأن الدين، كما جاء في القرآن، اما ما هو ليس من شأن الدين فقد ترك امره الى الدولة تتدبره بالانسجام مع الشأن الأول حتى لا تقع الدولة في تناقض داخلي مع نفسها من دون ان يعني ذلك القول بفصل الدين عن الدولة، كما يقول البعض. وتلك هي كانت طبيعة الدولة التي وجد مسلمو المدينة انفسهم مسؤولين عن ادارتها يوم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حوالى عشر سنوات من تأسيسه سلطة دينية - دنيوية ستكون نواة دولة اسلامية كبيرة ما زالت تجربتها وصورتها مصدر الهام للحركات النضالية الاسلامية على مدى العصور التي تلت سقوطها وانهيارها. وأظهرت الاحداث اللاحقة في المدينة ان الرسول ترك سكانها، وهم رعاياه اذا تحدثنا عنه كرئيس دولة، وقد استقرت في اذهانهم فكرتان: الأولى ضرورة السلطة السياسية في المجتمع، والثانية دور الناس في اختيار من يتولى هذه السلطة. وكانت هاتان الفكرتان من الانجازات التي حققها الاسلام على صعيد التطور السياسي والاجتماعي للعرب آنذاك. فلم تعرف الجزيرة العربية من قبل دولة مركزية موحدة ولم يكن للمواطنين العرب دور مذكور على صعيد حياتهم السياسية خارج اطار القبيلة التي شكلت الوحدة السياسية الأساسية في الجزيرة. ويتجاوز هذا القول ادعاء البعض من ان الرسول لم ينشئ دولة او انه لم يكن من شأنه كرسول القيام بذلك، بل اننا نعتبر ان ذلك في صلب ما قام به الرسول. ذلك لأن الدولة هي في الأساس ظاهرة نبوية بمعنى انها نشأت بمبادرة من الانبياء خصوصاً أولي الشرائع منهم مثل النبي موسى والنبي محمد. ونبوية الدولة في التاريخ الانساني هي في حقيقة الامر مظهر من مظاهر تدخل العناية الالهية في حياة الانسان الدنيوية، مواكبة للتطور المستمر في المجتمع البشري واستجابة لحاجاته المتجددة. هذا أولاً، وثانياً: ان ما أنشأه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة يشتمل على ما يعتبر عناصر الدولة مثل الاقليم والسكان والسلطة تساوقاً مع التعريف التقليدي للدولة القائل ان الدولة هي "جماعة من الناس يعيشون بصورة دائمة فوق اقليم جغرافي محدد ويخضعون لسلطة سياسية معينة".10 فقد تمثل سكان دولة الرسول في المدينة، ومن ثم الجزيرة العربية كلها، بالمسلمين من الانصار والمهاجرين ومن اسلم بعد الفتح، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى وبقايا المشركين حتى نزول سورة براءة في عام 9 للهجرة.11 وأما الاقليم فقد تمثل في كل أراضي الجزيرة التي خضعت لسلطة الرسول السياسية بدءاً من المدينة ثم بقية ارجاء الجزيرة التي انضمت الى الدولة بعد فتح مكة. وأخيراً تمثلت السلطة السياسية في شخص الرسول محمد والجهاز الاداري والتنفيذي الذي انشأه بما في ذلك قيادة الجيش. وقد كرس دستور الدولة الذي وضعه الرسول بعد هجرته الى المدينة من مكة هذه السلطة القائمة على مرجعية الرسول فيها حيث يقول الدستور: "وانكم مهما اختلفتم من شيء فان مرده الى الله والى محمد"12. وكان من اجراءات الرسول باعتباره رئيس سلطة زمنية ان امر باجراء احصاء للمسلمين من سكان المدينة وقال: "اكتبوا لي من تلفظ بالاسلام من الناس"، فبلغوا الفا وخمسمئة رجل كما قال حذيفة بن اليمان.13 وأخيراً فان الدين الجديد الذي جاء به النبي محمد تضمن الكثير من البنود والفقرات ما يستحيل تصور كيفية تنفيذها بلا وجود لسلطة سياسية في المجتمع، اي دولة، تأخذ على عاتقها تطبيق هذه البنود وإجراءها في المجتمع. ويندرج في هذه الامور احكام القضاء والعقوبات والأموال وغيرها. اثير موضوع تولي السلطة السياسية في المجتمع في يوم وفاة الرسول، ولم يكن الموضوع المثار هو ضرورة السلطة للمجتمع او طبيعتها، فقد تجاوز سكان المدينة هذا الامر لوضوح بداهته بالنسبة اليهم، انما كان الموضوع هو من يتولى السلطة وكيف. كان وجود السلطة السياسية في المجتمع ضرورياً في وعي اولئك المسلمين الأوائل، السلطة بمعنى وجود مصدر للقرار والامر والنهي وقيادة الجيش وجباية الأموال وتعيين القضاة والولاة وتوزيع الارزاق والعطايا، وكلها من وظائف الدولة. وإذا شئنا اتخاذ النقاش الحاد الذي دار في سقيفة بني ساعدة بعد ظهر يوم وفاة رسول الله شاهدا على طبيعة وعي الناس آنذاك لأمكننا الزعم بأنهم كانوا ينطلقون من اعتبار ضرورة الدولة مسلمة غير مطروحة للنقاش، لأنهم ببساطة لم يتناقشوا في هذا الامر. وقد عبر الامام علي عن هذه الضرورة في وقت لاحق حينما قال: "لا بد للناس من امير"، وهو يرد على دعوى للخوارج قالوا فيها "ان الحكم الا لله". وعلى المستوى نفسه يمكننا الزعم بأنهم كانوا يتحدثون عن سلطة زمنية وليس سلطة دينية. بل انهم لم يتناقشوا حول طبيعة السلطة وهل هي دينية او زمنية لأنهم ما كانوا ينظرون اليها الا باعتبارها شأناً دنيوياً، ولهذا اعطوا لأنفسهم الحق في النقاش فيه. هذا على رغم ان الدين، وقد كان جديداً طرياً، هو الأساس الذي قام عليه مجتمع المدينة. والا لتعين عليهم الرجوع الى النصوص الدينية من قرآن او حديث للبرهنة على صدق دعواهم وآرائهم وقد اختلفوا فيما بينهم. وهذا امر سيفعله مسلمو الاجيال اللاحقة حينما تكرست مرجعية النص الديني في النظر السياسي والجدال الفكري. ومما يدعم هذا الزعم ان المسلمين قبلوا بسرعة ان يكون لقب خليفة رسول الله هو "امير المؤمنين" والامارة شأن بالغ الظهور في دنيويته حتى وان كان المأمورون "مؤمنين" وهي كلمة ذات ايحاء ديني. فهؤلاء المؤمنون بالدين الجديد بحاجة الى امير يدير لهم شؤون دنياهم. وانه لمما له دلالة ان المسلمين هم الذين اختاروا لرئيسهم القابه. ففي البداية كانوا يطلقون عليه لقب "خليفة رسول الله" ثم "خليفة خليفة رسول الله" وكتب الخليفة عمر بن الخطاب "خليفة ابي بكر" حتى استبدل هذا اللقب بلقب "امير المؤمنين" وقال له الناس: "امرناك علينا فأنت اميرنا، فقال لهم: نعم انتم المؤمنون وأنا اميركم"، وقيل ان احدهم قال له: "السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ لَتَخْرِجَنّ مما قلت، فأخبره وقال: انت الامير ونحن المؤمنون".14 هذا علماً بأن الذين شاركوا في نقاشات السقيفة كانوا مسلمين كلهم: لا يوجد بينهم مشرك واحد ولا مسيحي واحد ولا يهودي واحد، وأخيراً ولا علماني واحد. ولم تكن زمنية السلطة السياسية لتثير حفيظة بعضهم او تخوفه من احتمال فصل الدين عن الدولة. الهوامش: 1 - قال الراغب الاصفهاني في المفردات، ص416: ان القيام للشيء هو مراعاته والحفظ عليه. 2 - محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1973، ط2، ج18، ص30. 3 - الميزان، ج16، ص178. 4 - الميزان، ج5، ص180. 5 - الراغب الاصفهاني، المفردات، دار المعرفة، بيروت، ص75. 6 - المصدر السابق، ص441. 7 - الميزان، ج12، ص324 - 325. 8 - محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، دار التعارف، بيروت، 1990، ص69. 9 - الامام الخوئي، منهاج الصالحين، منشورات مدينة العلم، قم، 1410 هجرية، ج1، ص19. 10 - د. عبدالغني بسيوني عبدالله، النظم السياسية، الدار الجامعية، بيروت 1984، ص19. 11 - ابن هشام، السيرة النبوية، دار الجيل، بيروت، ج4، ص139. 12 - محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، ط5، 1985 ص61. 13 - المصدر السابق، ص65. 14 - الحافظ جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1988، ص109 - 110.