كانت تجارب ما كان يسمى في أواخر السبعينات في أوساط اليسار ب "الأخلاق النضالية"، مرجعاً يعتمد في صفوف العمل السياسي اليساري والقومي والهجين بينهما. ولم يكتشف النساك منا أن الأخلاق النضالية ليست أكثر من مشروع أو تطلعاً يوتوبيا لا علاقة له بالواقع، إلا متأخرين. وخصوصاً ان أجواء النضال! السياسي البديل عن العمل السياسي الرسمي كانت نموذجاً مغلفاً بالمشاريع والأوهام والترتيبات الهرمية التي تفرضها ظروف العمل السياسي غير الرسمي، والتي كانت بدورها، تفسح في المجال أمام رواد وقادة هذه التيارات السياسية أن يظهروا في أبلغ شكل ممكن للنقاء!، طالما أن الاحتكاك بهم كان قليلاً لداعي التراتبية والسرية. ومع الوقت وكثرة الاحتكاك تبينت أن البيوريتانيين ليسوا إلا بشراً!! وأن المواقع تستهوي البشر بغض النظر عما إذا كانت مواقع سلطوية أو مجرد مواقع "اعتبارية" تحقق للأنا القيادية فرصة استمراء العلاقة الثنائية المتمثلة بالأشكال الكلاسيكية التي كانوا أنفسهم ضدها ومنه: حاكم - محكوم، فوق - تحت، قائد - جمهور... وهي الثنائيات التي تجسد الأنا الراعية في علاقتها مع اللاوعي الجمعي القطيعي. وهكذا لا تغدو القيادة تراتباً سلطوياً أو نفعياً فحسب، بل هي في عمقها تراتب نفسي يحقق معادلة الحاكم والمحكوم، بغض النظر عن الايديولوجية التي يحملها هذا الحاكم أو ذاك المحكوم، إذ أن كل التيارات السياسية ونظرياتها الايديولوجية لم تلتفت، بالرغم من كل ما تزعمه من تبنٍ للاتجاهات العدالية والمساواتية والتي أدّعها أو عملت عليها أو حتى توهمت صادقة أنها تستطيع أن تحققها، كبديل عن واقع الحال، الى أن القيادة المدعاة لهذا المشروع أو لهذا الوهم، لا فرق، انما تنال من العدالية والمساواة التي تدعيها لأنها تمارس هذا السلوك اللا عداليّ، عندما تصنّف البشر الى قادة وجماهير، الأمر الذي سينتهي - بسبب طبيعة السياسة ذاتها لا بسبب مساوئ السياسيين من زاوية التقييم الأخلاقي - الى الفوق/ التحت في العلاقة بين قيادة تفكر وتمارس الفعل ولو نظرياً أو اعتبارياً باعتبارها قيادة غير رسمية، وجماهير لا تفكر ولا هي قادرة على الممارسة، وهي العلاقة ذاتها التي تخلق مع الزمن أحقية!! احتقار هذه القيادة لجماهيرها...!!. ومع الاحتكاك بالسياسيين غير الرسميين الذين غدوا بشراً يتلاعبون بجماهيرهم وفقاً لما يتصورون أنه لمصلحة هذه الجماهير، بدا واضحاً ان الأثر الميكيافيلي الذي نقدته تجاربنا وطموحاتنا الوجدانية، انما يعمل في صلب أي عمل سياسي. ومع الانسحاب من لعبة هذه الممارسة التي تقلب الحقائق، والتي هي في نهاية الأمر ميكيافيلية شئناً أم أبينا، بدأت أتلمس بشيء من الوعي المطابق للواقع أو لنقل بشيء من الواقعية السياسية أن الميكيافيلية هي محتوى أية سياسة وهذه الحقيقة تحيل الأخيرة - فعلاً - الى لعبة، سواء أكانت تحمل ايديولوجيا خلاص ثوري رسمي أو غير رسمي، أو أكانت ليبرالية أو ديموقراطية، وأن الفارق هو في درجة، أو لنقل في مستوى التقانة، التي تستخدم هذه الميكيافيلية... وأن مسخ أولئك، الذين لا يمكن أن نطلق عليهم إلا نعت أرباع المثقفين، للميكيافيلية الى مرذولية الغاية تبرر الوسيلة، هو ضرب من المسخ الأخلاقي الموغل في سطحيته، إذ أن ميكيافيل لم يكن ينصح أميره بما ينبغي أو ما لا ينبغي كي يكون ديكتاتوراً، انما كان يؤرخ للعقلانية السياسية ويسجل بأمانة ما لا يقال في طبيعة الفعل السياسي، أي فعل سياسي. ومع كتيب صغير لحازم صاغية عن ميكيافيل، التقطت أولى المفاهيم التي كانت غائبة عن وجدانيتي السياسية وهي أن ميكيافيل لم يكن يبحث عن ديكتاتور انما كان يبحث عن الوحدة: الوحدة التي تجمع الأقطاب الأربعة المتناحرة روما - البندقية - ميلانو - فلورانسا، وباعتباري وحدوياً، وجدت في هذا الكتيب الصغير - الكبير، دليلاً لقراءة أخرى للميكيافيلية تعتمد المحاسن فيها من أجل صنع مشروع وحدوي بأي ثمن. وأعدت قراءة السياسة على أساس هذا الاكتشاف وعندئذ أدركت كم كان عبدالناصر ساذجاً عندما فضل أن يسحب كتيبته من المظليين التي نزلت اللاذقية غداة الانفصال كي لا يسيل الدم في سورية، وعرفت عندئذ أن هذه الوجدانية السياسية هي جزء من كوارثنا، وبدأت أتساءل هل كنا على حق فعلاً في أن نقيّم تاريخ قادة أمتنا على أساس ما كان مطابقاً للأخلاق وعلى أساس ما كان جيداً وما كان سيئاً!! وهما تعبيران وصفيان أخلاقيان، وأدركت عندئذ لماذا يحب الروس إيفان الرهيب بنذالته وقسوته، ولماذا يفضل الفرنسيون نابليون بونابرت رغم كل أمراضه النفسية وما جره على الفرنسيين من حروب وكذا لويس الرابع عشر، على لويس السادس عشر الطيب الذي كان يحب الشعب ويتألم لما يتألم، ولماذا يقول جاك إلول في كتابه الوهم السياسي أنه يحتقر شارل ديغول لأنه لم يقدم لفرنسا القوة التي وعدها بها، ولماذا يفضل الأوروبيون شارل العاشر رغم أنه ترك القدس بعد حملات صليبية عدة من أجل أن يبني... الدولة. نعم الدولة، وهنا بيت القصيد، ومن الكتيب الذي قادني الى الوحدة عبر الميكيافيلية بدأت أقرأ المزيد وأقارن مع تجارب معاصرينا من القادة السياسيين العرب وأتلمس مفهوماً أعلى وأرقى من مفهوم الوحدة الايديولوجي الرغبوني التأملي... أعني مفهوم الدولة. وفي دراستي التي نشرتها في مجلة دراسات عربية ببيروت كانون الثاني/ يناير 1986 وأعدت نشرها وتصويبها في كتابي النهضة والسياسة بدأت انتقل من الايديولوجيا الى الواقعية السياسية، فأكدت أن ميكيافيل كان يجسد أخلاقاً!، على اعتبار أن أخلاقه هذه كانت نظرة موضوعية لقوانين العلاقات السياسية والدولية، فإذا به يعمم ديبلوماسية السلوك السياسي المتغير وفق واقع متغير، وهاجسه هو البحث عن دولة بأي شكل من الأشكال تكون الجامع الوحيد للبشر والضامن الأوحد لبقائهم، وعلى اعتبار أن هذه الدولة ستواجه المؤامرات من الخارج وعناصر التفكيك الأنتي - دولة من الداخل، فلا بد من نصائح للأمير كي تبقى وتستمر الدولة التي ستحقق الوحدة، مؤكداً وبشكل مبكر آنذاك أن هدف الدولة الأولية التي طورتها في كتاباتي لاحقاً الى الدولة - الاكراه ليس جعل الشعب سعيداً لأن هذا الهدف لاحق كمسألة في الفكر السياسي وفي الغائية السياسية انما هدفها منع الاضطرابات وانهاء كل أشكال التفكك وبواعثه... أو على الأقل ضبط على هذه الأشكال ضمن ستاتيك سياسي يمنع تحولها من القوة الى الفعل. وكنت وقتئذ أرى أن ميكيافيل قد تجاوز هوبز الذي برر الحكم المطلق عقلياً انطلاقاً من تصور لطبيعة الانسان الأناني إذ كنت أتصور - وقتئذ - أن دواعي الدولة هي الأساس الوحيد الذي يقف خلف مساعي ميكيافيل لبناء صورة الأمير على أنه المطلق الذي يجب أن يحكم النسبي أو على أنه القائد العملاق الذي يجب أن يكون تحته ما لا يمكن أن يرقى الى أبعد من قزم، لكنني اكتشفت أن لا فرق بين ميكيافيل وهوبز وأن الأول أقرب - أيضاً - الى مفهوم الانسان الذئبي الذي جاء به هوبز، وكل ما هنالك، أن ميكيافيل قد وظف هذا المفهوم دون تسميته لغاية هي الدولة، لكن الاستناد الى مرزولية الانسان والجانب الشرير فيه كان حقيقة فعلية سواء أكان هذا لاعتبار المحافظة على الدولة، أو لأن الانسان هو فعلاً ذئبي وأناني، لا فرق، إذ أن نتائج علاقة الحاكم بمن هم تحته في التراتب الهرمي للسلطة، أو بمن هم في عداد الجماهير، تحكم هذه السمة التي تجعل من كل ما هو تحت الحاكم خطراً عليه. ومع أن السجال حول امكانية وجود بشر طيبين أو أن الخير جزء من ثنائية الخير والشر الموجودة والممكنة عند كل البشر، تستهوي الباحث والفيلسوف، خصوصاً إذا كانت في داخله نزعات عدالية وأخلاقية يستعيدها في نوستالجي لا واع أو هي تقارب سمة من سماته الشخصية، إلا أن هذا السجال ينفع في الفلسفة والمجتمع ولا ينفع في العمل السياسي، وهذه النتيجة التي توصلت اليها مؤخراً، لا أنكر أنها تسبب لي الكثير من القلق الوجداني الممزوج بالألم، لكن الوقائع التي لا تؤلم ليست أكثر من اسقاط للذات الوجدانية على الواقع، وبالتالي فهي ليست إلا أوهاماً رغم أنها... جميلة. هذه اللطمة الفكرية تحولت الى كتاب بحد ذاته هو السياسة وفن الحكم افتتحته بإهداء الى أولئك الذين يأملون بنموذج انساني في السياسة وأهديته عندئذ الى... حلم جميل، وأردفت ذلك بقول أوسكار وايلد بأن الحقيقة لا تكون صرفة أبداً، وأنها قلما تكون مجردة، بل هي التي يكون نقيضها هو حقيقة أيضاً. وفي هذا الكتاب بدأت بتطوير فكرة كنت قد تلمستها من فكرة أبا ايبان: يقول فيها اننا نلعن في المساء، وفي سهراتنا الحميمة، ميكيافيل، وفي الصباح نمارسه، وكان مآل هذا التطوير البحث في ما رأيته مبدأ للاستقلال السياسي أي لفصل السياسة عن الأخلاق، رغم أنني اعترفت وقتئذ بأن تدخل الأخلاق في كل شيء بما في ذلك السياسة شرعي لأنها ترى نفسها الأقصى والأعلى والمتسامي، إلا أنني ارتأيت أن من العقلانية والواقعية دراسة السياسة دراسة ستاتيكية بغض النظر عن النزوعات الشخصية إذ أن الصراع بين الممارسة والأفضلية الفضائيلية رغم أنه كان ولا يزال جزءاً من الصراع بين الممكن والمأمول، والواقعي الأدنى والحلمي الأقصى، إلا أن مناقشة الأمور السياسية من الناحية الأخلاقية غاية لا تنال كما كان يقول نجيب الأرمنازي، وحيث أن هنالك عدداً من النظم الأخلاقية بقدر ما يوجد من مجتمعات، فإن نسبية النظم الأخلاقية لا تستطيع أن تجاري طبيعة الفعل السياسي... باعتباره فعل دولة. وقد انتهيت الى ضرورة اعتبار النظام الأخلاقي نظاماً شخصياً واجتماعياً، وبالتالي عدم سحبه الى أخلاق السياسة التي منها الكذب والخداع والمناورة وعلاقة الأعلى بالأدنى... إذ أن سحب أخلاق المجتمع الى أخلاق السياسة لن يقيم سياسة، وكذلك فقد استدركت أن سحب أخلاق السياسة الى المجتمع سوف يدمر المجتمع وهذا ما اعتبرته مبدأ الاستقلال السياسي وطالبت وفقاً له ممارسة أخلاق السياسة الميكيافيلية ولكن مع التمييز بينها وبين أخلاق المجتمع، وعليه فإن الكاذب في السياسة عليه أن يكون صادقاً في المجتمع، بل يجب عليه أن يكون كذلك. لكنني لا أزال أرى بأن تطعيم أخلاق السياسة بأخلاق المجتمع وفق إيقاع معين يفيد السياسة ولا يسيء اليها كاتباع أسلوب التسامح من القائد مع المتآمرين عليه والمعارضين له بتسليمهم مواقع قيادة وهو اجراء يطوق الى الأبد هؤلاء ويجعلهم أكثر فاعلية في العمل السياسي ومن أكثر الناس اخلاصاً بآن. لكن تطعيم أخلاق المجتمع بأخلاق السياسة يبدو لي خطراً كبيراً، والأمر موضع بحث غير مكتمل لدي حتى الآن. وقد رأيت أن العقلانية السياسية وطبيعة السياسة المعاصرة تستلزم اليوم خفض مستوى التوتر بين الحلم واليوتوبيا الاجتماعية من جهة، وبين الواقع الذي يتعامل معه السياسيون جهة أخرى، وهذا لا يكون إلا من خلال القناعة باستقلالية السياسة. ولكن كل ما سبق لم يمنع ولا يمنع أن نقول اليوم بأنه على الدولة التي هي مبرر أخلاق السياسة أن تسعى "وهي مطالبة بذلك دائماً ويجب أن يضمن ذلك من خلال مؤسساتها" التشريعية والقضائية والتنفيذية الى أن تحقق الحد الأدنى الممكن واقعياً من الأمان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمحكومين على أن تسمح دائماً للحلم الاجتماعي اليوتوبي الأقصى بأن يكون فاتورة في حساباتها وهامشاً احتياطياً في نزوعها نحو الأفضل، على اعتبار أن على كل دولة أن تقيم ما يهيئ لمشروع أعلى هو الحلم تسعى إليه باستمرار، وإلا فإذا كنا نقيم الميكيافيلية على محض الممكن فإن الدولة ستكون عندئذ دولة محنطة من الداخل ولا روح فيها. صحيح أن الميكيافيلية هي مشروع للاستقرار وأن كل استقرار يحمل امكانية التسكين والستاتيك، إلا أن الاستقرار غير المحمول على حاملة المطلب الأقصى سينتهي الى التعفن وبالتالي الى اللاستقرار لأن التعفن سيقود الى وباء انعدام الحراك الاجتماعي والسياسي. ولهذا فالمطلب الأهم لميكيافيلية عصرية هو أن تحمل الدولة عنصر تقدمها في ثنايا استقرارها، وأن تتجدد باستمرار، من خلال آليات داخلية، وإلا فإن السحر سينقلب على الساحر، بمعنى أنه إذا كان السلوك الميكيافيلي في علاقة الحاكم بالمحكوم مشروعاً لبناء الدولة فإنه لن يكون مشروعاً إذا كان قد آل الى، أو كان هدفه تأبيد المظاهر الأولى لهذه الدولة، أي أن الانبعاث أو الخلق الأولي للدولة لا يجب أن يكون هو الغاية إذ أن ثالوث الدولة المعاصرة هو: 1- الدولة -الإكراه. 2- الدولة - القانون. 3- الدولة - المؤسسات. وعليه فإذا كانت لعبة السياسة تقتضي لبناء الدولة في شكلها الأولي اقامة دولة الإكراه، ومن أجل هذه الدولة نبرر ميكيافيليا رعوية علاقة الحاكم بالمحكوم، فإن دولة الإكراه ليست إلا عتبة على السلم، ومع التطور منها الى دولة القانون فدولة المؤسسات لا تعود نفس قواعد الميكيافيلية مشروعة، فإذا كان من غير المحبذ في مرحلة صنع الدولة - الإكراه أن يستقدم الزعيم كفاءات مماثلة له أو تفوقه في التراتب الهرمي للسلطة، فإن هذه الكفاءات مطلوبة في ثنايا العمل المؤسساتي. صحيح أن تداول السلطة في مآل الدولة - المؤسسات سيلغي هذا المبدأ في اطار التنوع إلا أنه لا يلغيه في اطار التسلسل الهرمي للمؤسسات الحاكمة أو التي تتداول السلطة لأنها مؤسسات لا تعيش إلا بدم جديد، لكن اللعبة أعني لعبة العملاق والأقزام تمارس هنا بمستوى أعلى تقنية وأقل فجاجة من تلك التي تمارس في الدولة - الإكراه، حتى أننا نستطيع أن نفسر الاضطراب السياسي الذي تعيشه تجارب ديموقراطية حزبية داخل نماذج ديموقراطية هجينة كالتي في اسرائيل بأحزابها فرادى أو جماعية أو في الهند أو باكستان... الخ، بظهور تنازع على القيادة يأخذ شكل التناحر التفتيتي، على أنه نتيجة طبيعية لعدم وجود إرث سياسي فاعل للعبة الميكيافيلية التي تتسلل بشكل عميق وأصيل في تجارب كالتي تعيشها الأحزاب الفرنسية والبريطانية وغيرها ممن تدرجوا من الدولة - الإكراه الى الدولة - القانون الى الدولة - المؤسسات الحالية، وهذا ما يجعلني أميل الى رفض الديموقراطية على عواهنها لا لأنني لا أقبلها نموذجاً أعلى للتقدم السياسي وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم، انما لأنني أرى أن الكثير من الدول العربية لم ينجز الدولة الإكراه بعد، وأن من أنجزها لم يستطع أن ينتقل الى الدولة القانون ولم يجذر مؤسسات تكفل ألا تتحول الديموقراطية غير المبنية على قواعدها الى غطاء للفعل الطائفي والاقليمي والمناطقي والحاراتي... أي غطاء لما هو قبل وطني وقبل دولتي. ولكن الميكيافيلية التي تصنع الدولة الإكراه، بكل أخلاقها الهوبزية ولا تستطيع أن ترتفع عن الآنية والمباشرة في إشعار المواطن أنه ملغى، لا تستطيع أن ترتفع عن بدائيتها وهي بحاجة عند الانتقال من الدولة - الإكراه الى الدولة - القانون - المؤسسات الى تطوير تقانات بناء الصلة صلة ما بينها وبين مواطنيها، وهي بحاجة أيضاً الى نقد خارجي عندما تصر موازين قواها الستاتيكية الداخلية على أن تبقي مشروع الدولة في حدود الدولة - الإكراه، وهو ما يحيلها الى التعفن. والسؤال الذي يتفرع من هذه المناظرة التي قادتنا من الميكيافيلية الى الدولة هو: متى يصبح من الضروري الانتقال من الدولة - الإكراه الى الدولة اللاحقة؟ ومتى تتحدد ساعة الصفر؟ تستنفد الدولة - الإكراه وظيفتها عندما تحول البشر المنفلتين من عقالهم الى مواطنين يخشون الأجهزة، وفي هذه الحالة يصبح هؤلاء المواطنين مستعدين لقبول القانون عصاة ترفع في وجههم فتمنع التجاوز والخطأ دون أن تستخدم. بعد أن كانت الأجهزة هي هذه العصاة. ومجرد استمرار وظيفة الإكراه بشكلها البدائي سيمنح الأجهزة قوة التكلس والتصلب في وضعية التسلط وستكون وهذه هي إحدى أشكال التعفن السياسي الذي سيقلب الطاولة على مشروع الدولة، وهنا بالذات، وعلى من يقود المشروع السياسي المبني على أساس البدء بدولة الإكراه ألا يحول حجة وضرورة الاستقرار مبرراً لعدم الانتقال التدريجي نحو ترسيخ تدريجي لسيادة القانون الذي يجب أن يكون فوق الجميع، وبدونه تفقد آلية السيطرة والضبط، وهي خلفية ومآل السلوك الأخلاقي للميكيافيلية، سمة الاستمرارية. إن احدى مخاطر مناظرتنا السابقة أنها لا تحدد توقيتاً وآلية للانتقال السلمي!! نحو الدولة - القانون، إذ قد تخلق قوى سياسية تمنع مع الزمن امكانية هذا التحول ويصبح الأفق مسدوداً أمامه... إننا نعترف أن هذه المخاطر موجودة، وأننا لا نمتلك وصفة سحرية للحل، لكننا يجب أن نعترف أيضاً أن لا دولة بدون هذه المخاطر، وأن على الوعي المطابق، وعلى الأقل في مراحله الأولى، أن يوصف الأشياء في طبيعتها، ويفتح الحوار حول ما لا يقع في دائرة المفكر به، بدلاً من الاكتفاء بالتنظير للأخلاقية السياسية الوحدانية أو المطالبة بتجسيد وصفة الديموقراطية باعتبارها الثمرة التي، للأسف لا يدرك المطالبون بها، لم تزرع شجرتها بعد وإذا ما كانت بعض الشجيرات قد زرعت بأنها مهددة بألا تتطور، أو أن تحترق عند حدود الدولة - الإكراه. ولسنا نميل الى التطورية الساذجة أو التقدمية الأكثر ساذجة التي تتصور أن التاريخ يسير الى الأمام أو الى الوضع المتقدم دائماً، لأن احتمال الانتكاس وارد، بل وربما أكيد في بعض الأحيان. لكننا ومع ذلك على قناعة بأن شروطاً خاصة لعدم الانتقال من الدولة - الإكراه الى الدولة - القانون والمؤسسات تبقى قائمة إذا ما كان هنالك من عدو خارجي يجعل الالتفات لكل ما عداه قلباً للأولويات ونوعاً من الترف. لكن حقيقة أخرى نجد أنفسنا أمامها ولا ريب، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن العدو قد يكون من النوع التاريخي. فهل يكون تأجيل التكيف والانتقال مشروعاً. إن حواراً جدياً حول هذا الأمر يجب أن يكون مادة ثرية للمصالحة التاريخية بين السلطة العربية والمثقف.