تزامنت حرب الخليج الثانية مع "شهر عسل" روسي - اميركي، وبدلاً عن الشهد لم تحصد موسكو سوى المرارة في أحوال كثيرة. وانعكس هذا البون الشاسع بين الحال الأولى والأزمة الراهنة في وسائل الاعلام الروسية. فعند أول غارة اميركية على العاصمة العراقية عام 1991 كانت الصحف في موسكو حافلة بعناوين مثل "بغداد تشتعل وكأنها شجرة عيد الميلاد" الذي كانت صحيفة "كمسمولسكايا برافدا" ومطبوعات أخرى جعلته رمزاً للابتهاج والفرحة بالضربة العسكرية. وفي تغطيتها للأزمة الحالية تقترب وسائل الاعلام الروسية من وجهة نظر الكرملين على رغم ان لهجتها في الحديث عن النظام العراقي أكثر شدة وصرامة. وأبرزت الصحف الروسية الوفاق الكامل بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية في الموقف من الموضوع العراقي واهتمام مختلف القوى السياسية بمتابعة المجابهة. واشار رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية فياتشيسلاف نيكونوف الى ان "احتمال مصرع مدنيين في العراق أثار نشاطاً سياسياً وسخطاً في كواليس السلطة لم يسبق لهما مثيل حتى عندما كان الآلاف من الروس يموتون في الشيشان". وفي تفسير لهذه الظاهرة أكدت صحيفة "نيزافيسيمايا" على ان موقف موسكو محكوم بعوامل استراتيجية. وذكرت ان الولاياتالمتحدة تريد اختبار "متانة هيمنتها على العالم" وان العراق أصبح بعد البوسنة وتوسيع الحلف الاطلسي "ثالث أهم امتحان" لزعامة واشنطن التي ترغب في ان تظهر لموسكو وباريس انها "قادرة على التخلي عنهما في منطقة مهمة استراتيجياً كالخليج". إضافة الى "تذكير العالم والعرب بالجهة التي تتخذ القرار في الشرق الأوسط وتسيطر عليه". الى جانب الأهداف الاستراتيجية يقدم الاعلام الروسي عرضاً للأهداف "العراقية" السياسية والعسكرية التي يمكن ان تتوخاها واشنطن. وأشارت "موسكو فسكيه نوفوستي" الاسبوعية الى رغبة الإدارة الاميركية في إرغام بغداد على تنفيذ قرارات الاممالمتحدة وإتلاف أسلحة الدمار الشامل. وذكرت ان "أياً من هذه الأهداف لن يتحقق". ووضعت لمقالها عنواناً "الضربة سهلة والانتصار صعب". وترى صحيفة "نيزافيسيمايا" ان الاميركيين "يراهنون على الجمع بين القوة العسكرية والتشدد في تطبيق العقوبات" بهدف زعزعة النظام في بغداد وإضعاف العراق عسكرياً خوفاً من ان يسترجع مستقبلاً قوته ويغدو "تهديداً للدول المجاورة ولاسرائيل وللمواقع الاميركية في الخليج". وتساءلت الصحيفة: "إذا كان الهدف الاميركي هو حرمان العراق من أسلحة الدمار الشامل فلماذا لا تسقط واشنطن حججاً تستخدمها بغداد ضد اللجنة الدولية؟ لماذا لا تعدل التركيبة القومية للجنة، ولماذا ترفض واشنطن حتى النظر في استخدام طائرات روسية للمراقبة الى جانب الاميركية". وتجيب الصحيفة على اسئلتها بالقول ان الادارة الاميركية تعتبر أياً من هذه "التنازلات" بادرة ضعف، اضافة الى أنها "لا تريد ان تقتسم مع أحد الزعامة في التعاطي مع الأزمات الدولية الكبرى". ومن جانبها ترى صحيفة "سوفيتسكايا روسيا" الموالية للشيوعيين ان "اتهام العراق بعدم الالتزام بقرارات مجلس الأمن والسعي الى تكريس العقوبات الى الأبد انما يهدف الى تحقيق هدف واحد ووحيد وهو إطاحة نظام صدام حسين الذي ترفضه الأوساط الصهيونية في الولاياتالمتحدة واسرائيل". وأبدت صحيفة "برافدا" اليسارية تعاطفاً مع العراق وان كانت ذكرت انه "يمكن التنديد بالنظام الشمولي لصدام حسين والمطالبة بتصفية أسلحة الدمار الشامل ... لكن لا يجوز ان يغدو الشعب العراقي رهينة للمصالح الاميركية ويتعرض الى حصار اقتصادي مهين ويصبح الضحية الأولى للغارات المحتملة". وعلى رغم ان صحيفة "سيفودنيا" معروفة بموالاتها للغرب فإنها تساءلت عن مبررات ضرب العراق "في حين ان الاميركيين أنفسهم أكدوا مراراً ان العراقيين بارعون في فن اخفاء الأسلحة، وليس من المعقول ان صدام سيفتح الأبواب على مصاريعها للمفتشين بعد تعرضه الى القصف". وتوقع المعلق التلفزيوني المعروف اليكسي بوشكوف ان يتحول العراق الى "بوسنة ثانية" في حال قيام الولاياتالمتحدة بغزو بري. وذكر ان الاميركيين في هذه الحال سيكونون مضطرين الى "إبقاء قوات للحفاظ على نظام جديد ينصبونه اضافة الى أنهم سيجابهون موجة من الارهاب الاسلامي يحتمل ان تطال الأراضي الاميركية ... اضافة الى احتمال تقسيم العراق وما يترتب عليه من تصاعد لنشاط الأكراد في تركيا وايران". وخلص الى القول ان ذلك سيعد "إعادة رسم خريطة المنطقة برمتها". بيد ان الصحف الروسية اختلفت في تقويمها لطريقة تعامل الكرملين مع الحدث. وأشارت صحيفة "كويرسانت" الناطقة باسم أوساط المال الى ان الرئيس العراقي "أفلح في دق اسفين بين الولاياتالمتحدة الاميركية وروسيا، ودفع الرئيس بوريس يلتسن الى اعتماد لهجة بالغة الصرامة" في مخاطبة نظيره الاميركي بيل كلينتون. لكن صحيفة "نيزافيسيمايا" المستقلة اعتبرت تحذير يلتسن من حرب عالمية على انه "من الوسائل القليلة المتبقية لإقناع الولاياتالمتحدة بالامتناع عن إنزال ضربة عسكرية". وتابعت ان واشنطن اذا صممت على مهاجمة العراق فإن أطرافاً متعددة ستقول ان "روسيا لم تعد دولة عظمى وان كلمتها لا تعني شيئاً". الا ان الصحيفة اشارت الى ان الكرملين ما زال يملك أوراقاً للرد منها تأجيل زيارة كلينتون والعدول عن ابرام معاهدة "ستارت - 2". الا ان صحيفة "ازفيستيا" الليبرالية لامت الرئيس لأنه "وضع نفسه في فخ وأطلق تصريحات عن اجراءات طارئة وفوق العادة، وقال انها ستتخذ إذا ألقى الاميركيون قنابلهم على العراق ... في حين اننا لا نملك ما نفعله سوى ان نثبت مرة اخرى كوننا نمراً من ورق". وانتقدت الصحيفة الكرملين لأنه "بلع إهانة" عراقية بإعلان بغداد أنها لم توافق على مقترحات لتفتيش قصور رئاسية بعد ان كانت موسكو أكدت انها تلقتها بالفعل. واضافت ان روسيا "المحامي الأكبر الذي يدافع عن بغداد ... يستجدي موافقة صدام حسين على تنفيذ قرارات كانت هذه الدولة نفسها روسيا وافقت عليها". واتهمت الصحيفة وزير الخارجية يفغيني بريماكوف بارتكاب اخطاء في تقدير تصميم واشنطن على ضرب العراق وحساب موقف فرنسا والتغير الذي طرأ على مواقف الدول الخليجية. وخلصت الى القول ان "الناس في الشرق الأوسط يحترمون الأقوياء كأميركا أو المتكبرين كالعراق، وروسيا لا تنتمي الى أي من الصنفين". واعتبر ستانيسلاف كوندراشوف وهو اشهر محلل سياسي في الشؤون الدولية ان موسكو حينما أفلحت في "فك الاشتباك" أثناء أزمة الخريف الماضي "بالغت في الاعلان عن نجاحها المحدود ... وغدت رهينة له". وتابع ان من الافضل لموسكو ان "تريح نفسها من عبء حملته طوعاً وتتنحى جانباً لتنظر ما اذا كان التكثيف العسكري في الخليج خدعة أم واقعاً". وإذا كان كوندراشوف يشك في إتمام الضربة فإن صحيفة "سيفودنيا" ترى ان أطرافاً كثيرة ترغب فيها، وتشير الى ان شركات النفط الاميركية والبريطانية والروسية لا تخفي ابتهاجها بارتفاع اسعار البترول. وأشارت الى ان الكرملين على رغم ما يتظاهر به من جهود لتسوية الأزمة سيكون "مرتاحاً اذا ركبت الولاياتالمتحدة رأسها" فهي من جهة ستغدو في موقع مهزوز في المنطقة وفي نظر دول اخرى اضافة الى ان روسيا ستكسب مواقع سياسية واقتصادية. وأكدت "نيزافيسيمايا غازيتا" ان واشنطن ستقدم على قصف العراق "اذ ان الضربة على مساوئها ستكون تأكيداً لزعامة اميركا اقليمياً وعالمياً، وسيتكبد صدام خسائر الا انه سيبقى في السلطة ليلعب دور البعبع المخيف الذي يتطلب وجود حارس اميركي دائم في الخليج ولذلك فالمغامرة مبررة".