وحده الزمن سيدلّك على الصواب، عندما يفقد الآخرون صوابهم. أما التاريخ فلا تتوقع في هذه الحالات ان يقول كلمته على عجل. هو ايضاً ينتظر. ثمانية وعشرون عاماً من الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية والسبعين من عمره، ينزل. يمشي على سجاد احمر، مذهولاً من امره. أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا كان يلزمه اذن، ثمانية وعشرون عاماً ليقطعها؟ رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما هو الحق، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيراً، وبانت عظام وجهه وعظام اصابعه. قبل قليل، قبل التاريخ بقليل. كان اسمه محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب. يدير بيديه اللّتين اخشوشنتا مصنعاً بسيطاً للآجُرّ. ويعيش بعيداً عن كل عمل سياسي. سوى ذكريات ثورة تنكّرت له، وأخبار وطن حذف حكّامه اسمه حتى من كتب التاريخ المدرسية، كزعيم أشعل ذات تشرين الثاني نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى للثورة التحريرية. اللحظة لم يعد له اسم. مذ خطا على تراب الوطن، اصبح اسمه هو "التاريخ". أليس التاريخ "هو ما يمنع المستقبل من ان يكون أي شيء"؟ الآن لم يعد له من عمر. لقد أصبح له اخيراً عمر احلامه، تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر. الآن، في هذا العمر، هو يتعلم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمشِ عليه يوماً بحرّية ولا بأمان. فقد طاردته فرنسا فوقه ارضاً وجواً. ولم تجد من سبيل لإلقاء القبض عليه هو ورفاقه سوى خطف طائرتهم سنة 1956، وهي تعبر اجواء البحر الابيض المتوسط، في رحلة تقلّهم من المغرب نحو تونس، فحوّلت وجهتها نحو فرنسا، واقتادت بوضياف مع رفاقه الأربعة: احمد بن بللّة وآيت أحمد ومحمد خيدر ورابح بطاط، موثقي الأيدي نحو معتقلاتها، امام اندهاش العالم الذي لم يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات، وأمام غضب الشارع العربي ومظاهراته، والذي كان عبدالناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسيّة، وملأه عنفواناً وغروراً قومياً. حتى إن اذاعة صوت العرب من القاهرة لم يكن يلزمها اكثر من أيام، لتخرج الى العالم العربي بألحان حماسيّة تطالب باطلاق سراح الزعماء الخمسة، اناشيد تلقّفتها افواه اطفالنا، وحناجر رجالنا، وزغاريد نسائنا، فردّدنا معها: "باسم الأحرار الخمسة/ حنردّ الثّار يا فرنسا.." كنّا نبكي. ووحده التاريخ كان يضحك. فهو وحده كان يدري ما لم يكن يتوقّعه احد. فما كادت الجزائر تنال استقلالها، ويصبح "الزعماء الخمسة" احراراً، حتى ارسل بن بللّة وقد اصبح رئيساً من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف، في حزيران يونيو 1963، وهو يغادر بيته. واقتيد بوضياف من مكان الى مكان. حتى انتهى به المطاف في معتقلات ضائعة في غياهب الصحراء، حيث خبر رجل الثورة الجزائرية الأول، قبل غيره، مهانة ان يكون لك وطن أقسى عليك من اعدائك. وهو ما اكتشفه بعده بسنتين بن بللّة نفسه، عندما جاءه بومدين ذات حزيران أيضاً من سنة 1965 فأزاحه من السلطة ورمى به في السجن، ليخرج منه بعد خمسة عشر عاماً عجوزاً. أما بوضياف الذي لم يطالب يوماً بالسلطة، وإنما رفض منذ البدء ان يكون قد كافح ليحرّر وطناً من الاستعمار، كي يسلّمه لديكتاتورية الحزب الواحد، فقد تساوى عنده الحاكمان. يوم اختفى، لم يوجد من بين رفاقه احد ليسأل اين ذهبوا به! كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة. فمضى بذلك القدر الهائل من الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور. تذكّروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عاماً، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا، تاركين لنا وطناً مرهوناً لدى البنك الدولي - مع كثير من التمنّي - لعدّة اجيال فقط. فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من النحافة، والنزاهة، ولم يجلس يوماً حول طاولة الصفقات المشبوهة للسلطة. كان لا بدّ من اسمه ليعيد الثقة الى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليه حكماً بعد آخر، علي بابا والأربعون حرامياً. جاءوا به. قالوا له الكلمات التي لم تصمد امامها شيخوخته: "الجزائر في حاجة اليك... انت الرجل الذي سينقذها". فقام العجوز. غسل يديه من طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائماً انه لا يمكن ان تبني شيئاً بالكراهية. وكان له قدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن مَنْ نفوه ومضى نحو "وطنه". فمنذ الأزل، لم يحدث ان نادته الجزائر ولم يستجب لندائها. هوذا يرتدي بذلة لم يتوقّع انه سيرتديها لمناسبة كهذه. يتعلم المشي امامنا. يتعلم الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل، كمن يعتذر عن يدٍ لم تحمل يوماً سوى السلاح... والآجرّ، ولم تكن مهيّأة لمثل هذا الدور. ها هوذا... بوضياف. يأتينا مشياً على الاقدام، مشياً على الاحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنية، وجيل لم يسمع باسمه قبل اليوم. ولكنه يرى في قامته تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافية. هوذا.. ليست قدماه اللتان كانتا تبوسان تراب الوطن مع كل خطوة، انما تراب الجزائر، هو الذي كان يحتفي بخطاه ويقبّل حذاءه. فلا تملك القلوب إلا ان تهتف: ايها التاريخ توقف... لقد جاءنا رجل من رجالك. كان يوم 14 كانون الثاني يناير 1992 يوماً استثنائياً، حتى في طقسه. فقد توقفت فيه الامطار التي هطلت قبل ذلك بغزارة، وجاء يوم مشمس. وكأنّ الطبيعة تطابقت مع مشاعر الجزائريين، او كأنّها ارادت ان تتواطأ مع التاريخ، وتهدي الى بوضياف يومه الأجمل. طوال الظهيرة، تعلّقت عيون الجزائر بشاشة التلفزيون. الكل يريد ان يرى ويسمع هذا الرجل الذي دخل حزب الصمت، منذ ثلاثين سنة، ماذا تراه سيقول؟ الكل يريد ان يقبّل، ولو بعينيه، هذا الذي يناديه رفاقه "سي الطيّب الوطنيّ" والذي تناديه قلوبنا اليوم "أبي". فمنذ موت بومدين ونحن يتامى. نعاني إفلاساً عاطفياً يفوق إفلاس اقتصادنا، وعجزاً وطنياً في المحبة يفوق عجز ميزانيّتنا. نحن نبحث عن رجل، له قامة عبدالناصر وكلمات بومدين ونزاهة بوضياف. رجل في بساطة أهلنا، يمرّر يده على رأسنا، يربت على اكتافنا، يقول لنا اشياء بسيطة نصدّقها، يعدنا بأحلام بسيطة ندري انه سيحقّقها، يبكي امامنا عن كل من ماتوا من دون ان يحقق في انتماءاتهم. يعتذر للأحياء عن موتاهم، وللموتى عن اغتيال احلامهم. رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على مَنْ سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجاهتهم... بإذلال وطن. يقول "الجزائر قبل كل شيء" فيوقظ فينا الكبرياء. وتصبح كلماته البسيطة شعارنا. قطعاً، منذ الأزل، كنا ننتظر بوضياف من دون ان ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها لزوجته "كل هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي... فلا ثقة لي في هؤلاء". وعندما سألته إن كان جاء إذن بنيّة الانتحار، اجابها كمن لا مفرّ له من قدر: "انه الواجب... كل أملي ان يمهلوني بعض الوقت". في اليوم التالي استيقظت المدينة بمزاج جاهز للجدل. واستيقظت بمزاج جاهز للكتابة، وكأنني لم اجد من طريقة للاحتفاء بعودة بوضياف سوى العودة الى ذلك الدفتر. فتحته حيث توقّف بي الحبّ. وتوقّف بي الحبر، منذ اربعة اشهر، عند قبلة. كانت نيّتي ان اكتب شيئاً عن الحاضر، ان اصف اندهاشي الجميل امام بوضياف. ولكن كانت عواطفي تلوي عنق قلمي نحو الماضي، وتوقظ داخلي رجلاً آخر، رجلاً أكاد لا افتح هذا الدفتر حتى يحضر. رجل قال لي: "تمنّيت ان اموت وأنا أقبّلك. اذا كانت كل القبل تموت. فالأجمل ان نموت اثناء قبلة". ورحل. من وقتها، وأنا أغذّي الذاكرة بكلماته المحمومة كي لا تنطفئ في انتظاره نيران الجسد. أهي الرغبة؟ أم حاجة الى الكتابة؟ أم... قدر يجعل دائماً كل قصة فرديّة، موازية لقصّة جماعية، لا ندري أيّتهما تكتب الأخرى؟ وإلا فما تفسير تلك المفاجأة التي كانت تنتظرني بعد ثلاثة اسابيع من عودة بوضياف؟ وإذا بي، انا التي لم يفارقني هاجس اللقاء به، في كل مكان ذهبت اليه او مررت به، اعثر عليه حيث لم اتوقّعه، في بيتي، على صفحات جريدة مهملة... ملقاة عند اقدام مكتب زوجي! أحب تلك الهدايا التي تقدّمها لك الحياة، خارج المناسبات، فتقلب بمصادفة حياتك، حتى تلك التي كهذه يرمي لك بها القدر ارضاً، فتنحني لالتقاطها ممنوناً، لأنك تعثّرت من دون قصد... بالحبّ! وماذا لو تكون قد تعثّرت بشيء آخر؟ فلم يحدث للحبّ أن كان مجاوراً للسياسة الى هذا الحدّ؟ *** في صورة تذكارية تجمع بوضياف مع اعضاء من "التجمّع الوطني" أراه، وأكاد لا اصدّق عيني. يتسمّر نظري عند وجهه بالذات: هذه الملامح أعرفها تماماً، وهذه النظرة الغائبة، انها نفسها التي استوقفتني يوم خلع ذلك الرجل نظاراته السوداء في موعدنا الأخير، ليقبّلني. وهذا الشعر، هذا الفم، هذا الكلّ، اعرفه. انه... هو! أعيد قراءة ذلك المقال المرافق للصورة بعجل، ثم بتأنّ، كي اجد تفسيراً لوجود هذا الرجل هنا. افهم ان بوضياف قرر انشاء المجلس الوطني الاستشاري، وهو تجمّع يضمّ عدداً كبيراً من شرائح المجتمع الجزائري، معظمهم من المثقّفين والسياسيين الجزائريين المعروفين بنزاهتهم وغيرتهم الوطنية، وغير المحسوبين على اي نظام سابق، كي يساعدوه في اخراج الجزائر من مأزقها السياسي والتشريعي. أواصل قراءة المقال في الصفحة الثالثة، التي تملأها صور عدة مرفقة ببطاقة تعريف بعض الأعضاء. فأعجب لنسبة الكتّاب والمثقّفين، الذين اختيروا ليكونوا اعضاء في هذا المجلس. حتى إن احد الذين سيتناوبون على رئاسته، لن يكون سوى الكاتب عبدالحميد بن هدوقة. وإن من اعضائه كثيراً من المثقفات والأساتذة الجامعيين والصحافيين، في بلد لم يسأل فيه المثقفون ولا النساء يوماً عن رأيهم. أطالع كل الأسماء وكل المهن. ولا اعثر على اي رسّام بين كل هؤلاء، حتى اكاد اقتنع بأن بي هوساً، وبأنني أصبحت أرى صورته في كل مكان، خصوصاً انني ادري بوجوده في باريس. وتبدو لي مشاركته في تجمّع كهذا امراً مستبعداً، إلاّ إذا كان قد عاد من السفر... ثم تخطر في ذهني فكرة، وأجدها قادرة على أن تحسم شكوكي، فأتّجه نحو الهاتف وأطلب تلك الأرقام التي ما زالت يدي تحفظها عن ظهر قلب، او قلبي عن ظهر يد. كانت الساعة التاسعة صباحاً. لم اتساءل حتى إذا كان الوقت مناسباً، او اذا كان ذلك الرجل نفسه هو الذي سيردّ على الهاتف، بل اذا كانت تلك الأرقام التي كنت اطلبها بيد مرتبكة، وقلب يتضاعف نبضه... صحيحة حقاً. فجأة اصبحت على عجل، لا وقت لي حتى للتحقق من صحّتها. اريد ان اسمعه، او اسمع على الاقل ذلك الهاتف وهو يرنّ في بيت عرفت فيه الحب، فيوقظ أثاثه، ويتحرّش بذاكرته. ولكن في الدقة الثانية رُفعت السمّاعة، وكاد قلبي معها يتوقف عن النبض. أوشِك ان اقول شيئاً، ثم أنتظر ان يردّ أحد قبل ان أنطق. بعد شيء من الصمت، يأتي ذلك الصوت الذي لم أعد أنتظره لفرط ما انتظرته. تراه عرفني من أنفاسي كي يسأل من دون مقدّمات: - كيف أنتِ؟ أكاد لا أصدّق ما يحدث لي. أردّ: - أأنت هنا؟ ثم أواصل بالاندهاش نفسه: - كيف عرفتني؟ يجيب بسخريّته المحبّبة: - من صمتك... الصمت كلمة السرّ بيننا. ولا أجد شيئاً أردّ به سوى كلمات محمومة، أردّدها كيفما اتفق كمن يهذي: - اشتقتك... كيف تخلّيت عنّي وسلّمتني الى هذه المدينة المجنونة؟ اريد ان اراك، كيف اراك؟ أجبني. أتدري أن الحياة لا تساوي شيئاً من دونك... ماذا فعلت بي لأحبّك الى هذا الحدّ؟ ولا يجيب بشيء، وكأن كلماتي لم تصله. يسألني فقط: - من اين تتكلّمين؟ اجيب: - من قسنطينة... يواصل: - من أي مكان بالذات؟ أجيب: - من البيت. يرد: - اطلبيني من مكان آخر. أسأله: - لماذا؟ لا يردّ. أسأله: - متى؟ يجيب: - متى تشائين... أنا باق هذا الصباح في البيت. ويضع السمّاعة. حدث كل هذا في دقائق. ولم يكن يلزمني اكثر من هذه الدقائق لأعود تلك المرأة الأخرى التي كنتها قبل أشهر. ها أنا ادخل الدوّامة نفسها من الفرح والخوف والترقّب والتفاؤل... والتساؤل. لماذا يعود هذا الرجل دائماً عندما أكفّ عن انتظاره؟ لماذا يأتي دائماً بتوقيت الأحداث السياسية الكبرى؟ لماذا لم يعطني إشعاراً بوجوده، ما دام قد عاد من فرنسا؟ ولماذا يسألني من أي مكان بالتحديد أتحدّث إليه؟ ولماذا... كما عَبْرَ نهر، يأخذني إليه دائماً تيّار الرغبة الجارف. يدحرجني من شلاّلات شاهقة للجنون، يمضي بي من شهقة الى اخرى .. يجذبني عشقه حيث لا ادري.