من الانشطة الحرفية التي ظلت تلقى اهتماماً واسعاً منذ زمن بعيد في المغرب، وخلال فترات متعاقبة من تاريخه القديم والحديث، حرفة "النقش على الخشب". ويبرز هذا الاهتمام في عدد من المعالم التاريخية في مساجد وقصور ظلت تحتفظ بقطع من الخشب المنقوش او المزخرف يزيد عمرها على قرون عدة. ومن هذا المنطلق اصبح النقش على الخشب يحمل دلالات ثقافية واجتماعية تندرج ضمن مكونات الأصالة المغربية الضاربة في عمق الذاكرة الحرفية. وعلى رغم انسياق هذا النشاط التقليدي في وحدة متكاملة سواء تعلّق الامر بوسائل الانتاج او المادة الاولية، فان العاملين في هذا القطاع يعمدون عادة الى التمييز فيه بين فئتين من المحترفين: الاولى فئة "نقّاشي العرعر" وهو لقب لم يأت اعتباطاً وانما تولد نتيجة تفرّدهم بنقش ينتمي الى عدد من المدارس الحرفية اضافة الى ارتباطهم بمادة اولية تستخلص من شجرة العرعر التي تكسو جبال الاطلس الكبير المحاذية للصويرة وآسفيومراكش. وهي شجرة تتميز بصلابة جذعها ووفرة فروعها التي يتجاوز طولها المتر الواحد، كما انها تبقى قابلة للتجدد عند متم ست سنوات. ويشار هنا الى ان اسعار الادوات المستخلصة من العرعر تفوق اسعار باقي الادوات المأخوذة من خشب الاشجار الاخرى. وهذا التفرّد لا يرتبط في مجمله بالندرة وانما بجودة هذا الخشب اضافة الى مدة صلاحيته. اما الفئة الثانية من المحترفين فأسمها "فئة نقاشة الأرز والصنوبر"، وهي تستعمل خشب شجر الارز والصنوبر كمادة أولية وتنشط على الخصوص في مناطق الأطلس المتوسط. ومن بين مواصفات هذه الأشجار أنها تعمر طويلاً لكن فروعها تبقى محدودة العدد والمقاييس، إذ يناهز طولها الثلاثة أمتار. وعموماً يظل هذا النوع من التصنيف متجاوراً إذ ساد نوع من التآلف بين الفئتين، وهذا ما يمكن ملامسته في امتزاجهما في أكثر من معلمة تاريخية في المغرب. الصويرة عالم متفرد على خلاف مدينة آسفي التي تضاءلت فيها حرفة النقش على الخشب وحلت محلها صناعة الخزف، فإن مدينة الصويرة ظلت تحتضن نشاط النقش على خشب العرعر منذ أمد بعيد. وهناك ورشات متباينة الحجم والمساحة تتوزع الى قسمين: قسم يوظف اساساً لتجميع الخشب، بينما الثاني يخصص لتحويل تلك القطع الى تحف مميزة تزينها نقوش تجسد بعداً ثقافياً يجمع بين ما هو مغربي اصيل وآخر يميل الى مجتمعات شرقية واسلامية. وهذا التزاوج جاء نتيجة عدد من العوامل يذكر منها انفتاح المدينة في عهد السلطان سيد محمد بن عبدالله، اضافة الى سيادة مدارس حرفية اشتهرت بهذا النشاط خصوصاً اليهود الذين يرجع اليهم الفضل في تنشيط هذا النوع من الحرف تبعاً لمعايير شرقية وتركية. ومن بين مواصفات النقش الصويري انه ظل يعتمد في مجمله على ادوات تقليدية بدءاً بما يسمى "النظام" وهو عبارة عن قطعتين من الخشب تشد اطرافهما بحبل صلب لضبط القطع الخشبية المرغوب في نقشها، ثم هناك "الابرة" وهي عبارة عن مسمار حديدي ثاقب يستخدم في تحديد الاطار العام للوحة. وتنطلق عملية النقش عبر تحديد اولي للرسم المرغوب فيه على المادة الخام التي تبدو في البداية على شاكلة اسطوانية مجوّفة تخترقها مقاييس مضبوطة، مربعات ومستطيلات متداخلة فيما بينها، في حين تمتد تشكيلات تجمع بين خطوط ميّالة الى اليسار واخرى سرعان ما تربط بنقط متقاطعة. ومن ثم يحاول النقاش ان يبني ايحاءات عامة على اللوحة، بل تمثلات لمعطى ثقافي لا زالت الصويرة تختزله في هذه الفن الاصيل. اما الصباغة فيمكن التمييز فيها بين نوعين: الصباغة التقليدية. وكان العاملون في هذا القطاع يستخلصونها من بعض النباتات والشجيرات ويخلط جزء منها مع الكحل بهدف الحصول على اللون الاسود، في حين كانت المادة نفسها تمزج بما يُعرف باسم "مستخلص الدباغة" الذي غالباً ما يتم الحصول منه على اكثر من لون يستعمل في انجاز عدد من الرسوم داخل كل لوحة على حدة او في صباغة الاواني المنزلية وغيرها. واجمالاً فان مدينة الصويرة ظلت وفية لهذا الارث التقليدي، واستطاعت أنامل النقّاش ان تحوّل شجرة العرعر الى تحف نادرة تثير انتباه السائح الاجنبي، وتشكّل لها لباقي المدن الجنوبية في المغرب واجهة فنية ومشهداً سياحياً ينضاف الى ما تحويه الصويرة من معالم تاريخية. من واقع القبيلة البربرية على خلاف ما تقوم عليه عملية النقش على خشب العرعر بمدينة الصويرة، فانها في مدن الاطلس المتوسط ازرو، افران، اموزار… تقتصر على ضوابط خاصة ظلت تفرضها المادة الاولية التي تتمثل في خشب الأرز والصنوبر اضافة الى المخزون الثقافي الذي تحتفظ به الذاكرة البربرية. ويعتقد بأن النقش كان موقوفاً في مجمله على السجاد، ولم يتحول الى الخشب الا بعد ان تم استقرار القبائل البربرية وتأمين وسائل التنقل بين المدن الصغيرة في الداخل ونظيرتها في الجنوب المغربي الصويرة، مراكش، اسفي…. وعن طريق هذا التواصل ظهرت البوادر الاولى لهذا الفن في اكثر من مدينة في الاطلس المتوسط. احتفظ النقش على خشب الارز والصنوبر بعدد من الخصوصيات توحي بأكثر من رمز اجتماعي، ولعل هذا ما يستشف اساساً من "النقش البلدي" الذي يجسد رسوماً مستوحاة من الواقع البربري فرس، عروسة، ختان، حفل موسمي … وعلى رغم سيادة هذا النوع من النحت فان ذلك لم يمنع من اجتهاد النشيطين في هذا القطاع لمحاكاة النقش الصويري نسبة الى مدينة الصويرة سواء على مستوى مقياس القطعة الخشبية المنقوشة او مواد الصباغة والخطوات المتبعة في هذا الميدان. وقد حظي "النقش الاطلسي" باهتمام خاص سواء من قبل الامراء والولاة وعلماء الاجناس. وهو اهتمام يلمس آنياً في تنظيم محترفي هذا القطاع داخل مقاولات صغيرة وبالتالي دعم نشاطهم ببعض وسائل الانتاج الحديثة، وان كانت هذه الاخيرة تبقى موضع رفض نسبي خصوصاً ان هذا النوع يرتبط بمخزون معرفي واجتماعي اصيل. وعادة ما يعتبر الارتباط صمام امان لهذا النوع من الفنون المغربية المتجذرة في المجتمع المغربي، ناهيك عن دعمه للمنتوج السياحي في البلاد.