رد السيد سليم الحص، رئيس الحكومة اللبناني الجديد، قبل نحو عشرة أيام على تكليفه تأليف الحكومة خلفاً للسيد رفيق الحريري، على سؤال عن احتمال اضطلاعه برئاسة الحكومة، رد بأن السؤال "افتراضي"، وترك الجواب عنه. ولكنه لم يترك تعليل رده ولم يهمله. فعزا تردي حال السياسة اللبنانية إلى عوامل أولها "انخفاض سقف" السياسة هذه. وحَمل "انخفاض السقف" على تعاظم "الدور الإقليمي"، وتصدره المعالجة السياسية. فلا تنزل الإعتبارات الإقليمية لأهل السياسة المحليين والوطنيين والمحلي هو الوطني، في هذا المعرض، وللرغبات المحلية والوطنية، إلا عن أقل القليل. والحال هذه، ولو جاء وصفها إيماءً وتورية، لا يطلب السيد الحص رئاسة الحكومة، وينسب الطلب إليه تولي الحكم ولو وزارةً؟ إلى الإفتراض المهمل والضعيف. وكان الرجل نفسه رفع صوته، قبل نحو العام، بمعارضة اتفاق اقتصادي بين "الثلاثة"، "الرؤساء الثلاثة"، ووصف الإتفاق بالمحاصصة والإرتجال، وبتقديم السياسة ومصالحها على معايير السلامة الإقتصادية. وندد نائب بيروت ورئيس لائحة انتخابية نازعت، في 1996، رفيق الحريري، على تمثيل العاصمة، ندد بالهدر، وبتعاظم الدين العام وخدمته ولجمه الإستثمار المنتج، وبأولوية تثبيت سوق القطع. وهو اليوم يستعيد هذه البنود في برنامجه ويرسي عليها خطة حكومته. ولما بدا نقده وتنديده يومها، أي قبل عام، ردَّ جواب على سياسة حكومية ورئاسية ونيابية متخبطة، سُئل صاحب النقد والتنديد عما إذا كان يرشح نفسه خليفة للسيد الحريري، الحاكم سعيداً ومطمئناً و"إقليمياً". فقال الرئيس الحص إن آراءه، وآراء"إخوانه" المستقلين، إنما هي من قبيل أداء وظيفة المعارضة على الوجه الحق، وليس معنى المعارضة طلب الحكم والحكومة والإدارة. فبدا هذا الرأي يومها غريباً، على ما جاء في بعض تعليقات "الحياة"، وخارجاً عن جادة السياسة في دولة ينسبها حرف دستورها إلى الديموقراطية. وفي كلا الوقتين، قبل سنة واليوم عشية التكليف والتأليف، شاب نفي سليم الحص طلب الحكم والولاية، شيء من الخشية. فكأن الخبير الإقتصادي والجامعي وابن العائلة البيروتية الذي جاء به الياس سركيس، الرئيس الأسبق 1976 - 1982، من الإقتصاديات الجامعية والعائلة إلى رئاسة الحكومة على بعض الإضطرار، كأنه يرجف من مباشرة كرسي "يرج"، على قول الجواهري العراقي في عبدالحميد كرامي "اللبناني" قبل نحو خمسة عقود، في بحر متلاطم من المنازعات والشهوات والإرادات التي لا غور لها ولا مستقر. فما الذي بدد خشية الخبير والجامعي والبيروتي، وهو بقي على هذه الصفات على رغم نحو عقد من الحكم الصوري، ورسم على وجهه، المرهق والأليم على الدوام، ما يشبه الجذل؟ ألا يلهمه بعض الخوف، أو القلق، مجيئه إلى رئاسة الحكومة على نحو لم تتورع الصحافة المحلية عن نعته ب "الإنقلاب"؟ ويحقق هذا النعت كلامه هو، قبل عشرة أيام من تسمية نيف وتسعين نائباً له رئيساً عتيداً، على "السقف" المنخفض و"الواطي" أي الموطؤ؟ ولم تمض أيام ثلاثة على تسمية السيد الحص حتى صدرت الصحف المحلية، ومعظمها بينها وبين رئيس الحكومة السابق السيد الحريري "حلفٌ"، "ما بلَّ بحرٌ صوفة"، وفي صفحاتها الأولى عبارة "العهد السابق"، كناية عن حكومات الحريري الثلاث في غضون ستة أعوام تامة. فهل انقشع "السقف" ورأى السيد الحص السماء من غير وسيط، حالما أغلقت دمشق "أبوابها" على قول صحافي قد يصبح له "شأن"؟ وهل يصدِّق رجل ليس ابن البارحة، ولا "ابن الشتوة الأخيرة"، على قول فرنسي مأثور، أن "السقوف" تنفرج، والمعارضة الإقتصادية الهادئة والحسابية تفضي إلى الحكم، بين العشية اللبنانية الإقليمية وضحاها؟ وما لا يُعقل على مثال معقول ومفهوم، وبالسوية في الناس، يحمل على شطط المخيلة، علَّ التعليل يشفي عطشه. وشطط التخيل والتعليل قوت لبناني يومي منذ نحو ثلاثة عقود من السنين. ومن يسمع الأقاويل والشائعات التي يتناقلها اللبنانيون ويتقاسمونها، غداة اعتذار رفيق الحريري عن مباشرة وزارته الرابعة، يخال أن الزمن رجع به إلى أيام الحروب الميمونة وتوقعاتها على إيقاع الحَصْر والرجاء. فهو "انقلاب الزمن" فعلاً وحقيقة. ولن يعدم العرافون والمتهكنون، والعرافة والكهانة من حِرَف أهل الصحافة في لبنان العروبي، قراءة طالع رئيس الحكومة الجديد في علامات ترقى إلى يوم كان لا يخامرهم شك في بقاء رفيق الحريري إلى العام 2010، ولا خوفٌ من ترك الرجل الحكم وتركهم "أيتاماً". ومن أولى ثمار العرافة التنبه إلى ثابتة بنيانية في تاريخ سليم الحص السياسي: فهو أول رئيس حكومة في رئاسة الياس سركيس، وأول رئيس حكومة في رئاسة الياس الهراوي، وها هو الأول في رئاسة إميل لحود... والباعث على القلق وينبغي طلب المعذرة عن قلق تبعث عليه أمور على هذه الضآلة هو استقرار الرأي السياسي "العام"، رأي المحافل والنخب والجمهور والعامة، على أعراف وعادات وتقاليد مقبولة وسائرة، فلا يعترضها معترض ولا ينكرها منكِر أو مستنكر. فعلى مثال سابق، دام تسعة أعوام تامة وتؤذن استقالة الحريري شأن ترئيس الحص بدوامه، تهبط السراء والضراء من حيث لا يعلم الناس، الخواص والعوام، ولا يحتسبون. وعلى نحو ما كان العرّافون، وهم ليسوا الصحافيين المحترفين وحدهم بل كل أهل "الرأي السياسي" أي كل الناس على هذا القدر أو ذاك، ينسبون الشاردة أو الواردة إلى حسابات لا يسبر قاعها، ولا تدرك مقاصدها، يتولاها أهل الحكم والشأن، فهم يستأنفون عملهم الحسابي، ورصدهم العلامات والإشارات و"الرسائل" الكونية، في حركات اليوم وسكناته. ولا يستغلق عليهم، قليلاً أو كثيراً، ولا يستغلق كذلك على السيد الحص ووزرائه، حدوث ما يحدث من الحوادث السياسية، النيابية والوزارية والقضائية، من غير مقدمات عامة ومشتركة، أي صنعها الجمهور وعامة اللبنانيين، مهدت الطريق لما يحدث، وآذنت به. فالحوادث التي تتناولها الصحافة المحلية، و"الرأي العام" على الأرجح، على نحو "الإنقلاب" وطي صفحة "العهد الماضي"، يحتار أصحاب الرأي إلى ما، وإلى من، وإلى ماذا، يعزونها، وعلامَ، ومن، وماذا، يحملونها. هل يعزونها إلى عسر الحال الإقتصادية والإجتماعية؟ من العسير أن يؤرخ لهذا العسر بالأسابيع القليلة الفائتة. فهو تمخضت عنه، إلى ميراث الحروب الملبننة السياسي والإقتصادي، سياسات تعود إلى أوائل العقد الحالي، صُوِّرت في صورة الترياق الشافي يوم نصب صاحبها، السيد رفيق الحريري، حاكماً أو والياً مالياً واقتصادياً على لبنان. أم هل يعزونها إلى الحال السياسية؟ وهذه راكدة ركود المستنقعات الآسنة، فلا يمخر عبابها إلا المخلوقات المستكينة إلى الطحالب والطين الطري والهدوء الذي لا يقطعه إلا طنينٌ مخنوق. أم إلى الحركات الإجتماعية؟ أو إلى الحركات المدنية؟ والحق أن مثل هذه "الحركات"، وهي لم تتخطَّ العزائم والنوايا على رغم قتلى سقطوا على حين غرة، عندما كانت تنم ببعض الحياة وتلد إضرابات وتظاهرات واعتصامات وعرائض، كانت موضع ازدراء لا يحاط به، عرضاً وعِظَماَ. وكان جوابها الوحيد عصا السيد المهندس ميشال المر، وزير الداخلية المزمن بعد حقيبة الدفاع، ومجلس الأمن المركزي وإجراءاته. وإذا اعتدت "الحركات" بنفسها أتاها الجواب تكليف القوات المسلحة تدبير الأمن، ومنعَ تجولٍ على كل الأراضي اللبنانية. فلماذا يأتي الجواب اليوم على شاكلة صاحب سياسات "داخلية"، على ما انتبهت صحيفة "خارجية"، معتدلة ومتوازنة، تقدِّم عصرَ النفقات على الإستدانة من كل الجهات والأسواق" وتقدم المراقبة على المحاصصة والتلفيق، والمحاسبةَ على شراء الولاءات والذمم، والإدارةَ المقننة على السياسة الميليشياوية، والقضاءَ اليقظ على القضاة النائمين؟ والجواب، إذا كان هذا جوابَ شيء أو سؤال أو "حركة"، يأتي على هذه الشاكلة، بينما المجيب، أو "صاحب" الجواب، واحد لم يتغير. فلم يعلم أحد، بعد، أن اللبنانيين بلغوا "سن الرشد" في غضون الأسابيع الستة الأخيرة من ولاية السيد الياس الهراوي. ولم يعلم أحد، بعد، أن انتخابات عامة جرت، واقترع ثلثا اللبنانيين فيها لجمعية تأسيسية سنَّت، على عجل، دستوراً جديداً يستجيب إرادة المواطنين في السيادة وفصل السلطات ومراقبتها. لذا، ولمَّا لم يعلم أحد مثل هذا العلم أو الخبر، ظهرت الدهشة على سيماء السيد الحريري، صاحب "العهد الماضي"، وتغنى السيد فؤاد السنيورة "وزير" المالية شعراً درويشياً رداً على استنابة قضائية مفاجئة ومثقلة بالتهمة والظنون. وكان الرجل، السيد الحريري، ضَمِن مجالس الوزراء، ورئاستها، إلى قيام الساعة، على قول الخليفة العباسي الأول وكان أباتي عام لقبه، جاداً غير ساخر، ب"الخليفة" زائر الأديار. فأنكر أن يقل عدد مسميه ومقترحيه رئيساً عن المئة، على خلاف ما أعلنت "صحفه" الكثيرة قبل ابتداء الاستشارات. وأنكر أن يُحسَب من لم يقترحوه على حدة، في باب برأسه، خلافاً لرأي فقهاء الحق الدستوري كلهم. وطعن في إعلان وزراء ثابتين وهذه بدعة من العسير شرحها على غير اللبنانيين القانعين والقانطين إحجامهم عن تسميته واقتراحه" وهو لم "يسمع" جهر السيد سليمان فرنجية "معارضته" يوم سماه السيد الحريري وزيراً ثابتاً، قبل أربعة أعوام. وعندما قدَّم بين يدي اللبنانيين، المفترضين، حساباً عن سني ولاياته، أغضى عن الإلماح غير الخفي إلى استشراء الفساد وانتشاره، وسكت عن التهديد الصريح بالضرب على يدي من قد "يلعب بالدولار" - كنايةً غير مواربة عن ضلوع سابق في مثل هذا "اللعب" المدمر. إذا صدق هذا الوصف فمؤداه أن "الدولة بوتمكين"، "اللبنانية" من غير تنصل، استقرت على أعراف وتقاليد وسنن قوامها التجدد المفاجئ والمباغت، والبخت المحض، والعرافة المتأخرة والاسترجاعية، والتصديق، والمعجزات، والتسليم، من غير أن يُحمل اللبنانيون على بذل أدنى جهد أو أقله. فما عليهم إلا الإسترسال في سباتهم، الإقليمي، فإذا استفاقوا، استفاقوا على "بابا نويل" ينقلهم "من المحاصصة إلى الحص"، على قول أحد كبار المحاصصين. فالأعاجيب اللبنانية "يصنعها" المظنونون. وهذا رأس الأعجوبة. * كاتب لبناني.