يحتفل المتجمع الدولي خلال هذه الأيام بالذكرى الخمسين لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان. وينظم كثير من الاحتفاليات والتظاهرات بهذه المناسبة. ومن جانبنا سنكتفي هنا بالتعرض لثلاث مسائل مثارة بشأن وضعية حقوق الانسان في العلاقات الدولية، وسنركز على الأبعاد الفكرية والمفاهيمية لهذه الوضعية دونما تجاهل للأبعاد السياسية والفنية والعملية. الا اننا نذكر اولاً ان عدداً من الاتفاقات والعهود الدولية في مجال حقوق الانسان اعقب الاعلان العالمي ليغطي مجالات الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومكافحة التمييز العنصري، ومكافحة التعذيب، ومكافحة التمييز ضد المرأة، وحماية حقوق الطفل. كما نقول ان الكثير من الدول - خصوصاً القوى الكبرى - سعت الى استخدام حقوق الانسان كسلاح في سياستها الخارجية وذلك لتحقيق اهداف ايديولوجية واستراتيجية او اقتصادية خاصة بها، سواء خلال الحرب الباردة او بعدها، وتركز في ذلك على ما يخدم مصالحها وتتجاهل ما هو دون ذلك. يرى بعض المحللين ان تطبيق معايير مزدوجة عند التعامل مع مسألة حقوق الانسان ليس امراً مستحدثاً، بل يرجع الى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والصراع بين الشرق والغرب حيث تبادل المعسكران - وفي المقدمة الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي - الاتهامات: كل طرف منهما يتهم الآخر بغض الطرف عن انتهاكات حقوق الانسان التي تجري من قبل حكومة دولة حليفة او صديقة لهذا المعسكر او ذاك، والتركيز بالمقابل على كشف - بل وتضخيم وأحياناً اختلاق - انتهاكات لحقوق الانسان تجري من قبل حكومات دول متحالفة او متعاونة مع المعسكر الآخر. واستمر منطق تطبيق معايير مزدوجة - بل وفي رأي البعض تفاقم - خلال السنوات القليلة التي اعقبت انتهاء هذه الحرب. فاذا كان احد طرفي المعادلة - وهو الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي ومن ورائهما المنظور الأيديولوجي الماركسي لحقوق الانسان - اختفى من الوجود على الساحة الدولية، فان هذا لم يحل بين الدول الغربية - خصوصاً الولاياتالمتحدة ولكن ايضاً الدول الأوروبية - وبين تطبيق هذه الازدواجية على المستويين المفاهيمي والتطبيقي عند تناول قضايا دولية مختلفة. وجاء تعامل الدول الغربية الكبرى مع عدد من الحالات عقب انتهاء الحرب الباردة ليؤكد استمرار وتصاعد هذه الازدواجية من حالة الى اخرى. ففي حالة العراق، وعقب انتهاء حرب الخليج الثانية 1990 - 1991 اصدر مجلس الأمن قراره رقم 688 1991 الخاص بمسألة حماية حقوق الانسان في العراق مركزاً على فئات بعينها في المجتمع العراقي. وتركز تفسير هذا القرار على حماية الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، وهو التفسير الذي تبنته الدول الغربية الكبرى... ما أثار شبهات في ضوء مخططات قديمة متجددة حول تقسيم العراق الى ثلاث دول: سنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وكردية في الشمال. ونرى ان هذه المواقف التي تبدو قاطعة وحاسمة من جانب الدول الغربية الكبرى تجاه مسألة حقوق الانسان في العراق قد تناقضت مع مطلب فلسطيني خاص بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة حينذاك. وتكرر هذا المطلب مراراً وتكراراً منذ انطلاق الانتفاضة الفلسطينية العام 1987 ومروراً بكل حادث يمثل انتهاكاً اسرائيلياً لحقوق الانسان الفلسطيني بشكل جماعي ومتواصل. واتصلت هذه الدعوة الفلسطينية بمسائل اخرى تتعلق بالعلاقة بين المبدأ القانوني الخاص بالحماية من جهة وكل من وضع الأراضي المحتلة في ظل اتفاقات جنيف الأربعة للعام 1949 والبروتوكول الاضافي للعام 1977 بشأن حقوق المدنيين في اوقات الصراعات المسلحة، وكذلك بوضع اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة خصوصاً في ظل الجدل الذي كان تجدد في عقد الثمانينات بشأن خضوع هؤلاء اللاجئين للاتفاق الخاص باللاجئين العام 1951 الذي جرى في اطار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ام خروجهم عن نطاقها بسبب خضوعهم لوكالة الأممالمتحدة لغوث اللاجئين الأنروا. ونشير هنا ايضاً الى المفارقة بين الموقف تجاه العراق والموقف المتردد دائماً، والمتخاذل احياناً ازاء انتهاكات حقوق الانسان بما في ذلك التطهير العرقي وجريمة الابادة خلال الصراع المسلح في البوسنة والهرسك في العقد الحالي. فقد حالت مواقف دول غربية كبرى دون وصف ما جرى في البوسنة من انتهاكات لحقوق الانسان بالتسمية الحقيقية: اي الابادة، وهي جريمة اعلى مرتبة من الانتهاكات الاخرى لحقوق الانسان لأنها تحول دون حق الانسان في الحياة، وهو الأمر الذي كان دفع الأممالمتحدة لتبني اتفاقية دولية خاصة لتجريم ابادة الجنس البشري. ولا يعني ما سبق انكاراً من جانبنا لأهمية حقوق الانسان واحترامها والالتزام بها، بل يهدف الى كشف حقيقة ازدواجية المعايير عند تطبيق هذه الحقوق او الدعوة الى الالتزام بها من جانب الدول الكبرى في النظام الدولي والدوافع الكامنة وراء هذه الازدواجية التي تضعف من المصداقية الفكرية والقيمية لضرورة الالتزام باحترام حقوق الانسان. اشكالية الخصوصية الثقافية منذ زمن طويل، ولكن بشكل اكثر سفوراً منذ انتهاء الحرب الباردة، برز اتجاه لدى عدد من الدول الغربية لفرض نسق قيمي واحد يتضمن معايير محددة سلفاً ويعكس توجهاً ايديولوجياً بعينه بشأن مسألة حقوق الانسان، مستغلين في ذلك غياب اي نسق منافس تسانده القوة السياسية لدولة او دول كبرى. وأعطى ذلك التوجه انطباعاً عاماً بأن المنظمات الدولية والاقليمية - وفي مقدمها الأممالمتحدة - سيكون عليها لعب دور لضمان الالتزام دولياً بهذه المعايير التي يفترض سلفاً وجود شبه اجماع دولي بشأنها. واتهمت هذه النزعة الغربية بأنها تعكس تحيزاً حضارياً وثقافياً بعينه. والواقع ان هذه الاشكالية تعود تاريخياً الى صدور اعلانات ومواثيق حقوق الانسان الدولية والتي اعتمدت - في الأساس - على اعلانات قومية غربية مثل الاعلانين الفرنسي والاميركي لحقوق الانسان، وتأثرت بالتطور التاريخي للمجتمعات الغربية عبر القرون الاخيرة، وبالخصوصية الفكرية والثقافية - بل وأحياناً الإرث الديني للشعوب الأوروبية، دونما ادراك في بعض الاحوال للتباين الحضاري والثقافي بين هذه الشعوب وتجاربها من جهة وبقية شعوب العالم من جهة اخرى، او بالقول احياناً ان الحالة الغربية هي الاكثر تقدماً في مجال حقوق الانسان وبالتالي تستحق ان تشكل المعيار الدولي الواجب الاتباع والذي يقاس عليه مدى التزام الآخرين بهذه الحقوق. ولئن كان الوعي بهذه الاشكالية محدوداً ابان تبني الاعلان العالمي لحقوق الانسان العام 1948 لتعبيره عن مبادئ عامة ومجردة من جهة وصياغاته المطلقة والموجزة من جهة اخرى، ولأن معظم بلدان العالم غير الغربي لم تكن قد حظيت باستقلالها بعد، فان الخلافات تأصلت أكثر عندما بدأت خطوات تفصيل هذه الحقوق والتفاوض حول اتفاقية خاصة بكل مجموعة منها على حده. وأدركت الدول الافريقية والآسيوية النزعة الغربية لعولمة النسق الفكري الغربي لتصور مسألة حقوق الانسان وهو نسق تحكمه اعتبارات حضارية وتاريخية خاصة بجزء من العالم، كما - ومثلما ذكرنا في الجزء السابق من هذا المقال - تحكمه مصالح سياسية للدول الغربية، والكبرى منها على وجه الخصوص. بل ان السنوات الماضية شهدت ادراكاً ووعياً من جانب عدد من المفكرين والمثقفين في الغرب لأوجه خلل في المعايير السائدة حالياً - والمستمدة اساساً من النظام القيمي الغربي - بشأن حقوق الانسان بسبب اقتصارها على هذا النظام دون غيره، وسعيها - عبر الحكومات الغربية التي تتبناها - الى تعميم نفسها على بقية اقاليم العالم خارج النطاق الجغرافي لحدود الغرب، من دون الاستفادة مما تحمله هذه الاقاليم من ثراء فكري وثقافي وما يمكن ان تقدمه للفكر والتشريع الدوليين، ومن دون الأخذ في الاعتبار خصوصية ظروف تلك الاقاليم وتطورها التاريخي واحتياجاتها. كما يسير في الاتجاه الايجابي نفسه مشاركة متزايدة من جانب فقهاء قانونيين من دول افريقية وآسيوية في اعمال اللجان المعنية بمختلف فئات حقوق الانسان وهي لجان خبراء تابعة للأمم المتحدة. ومن جانبها فإن عدداً من دول افريقيا وآسيا بدأ يتحرك باتجاه الاقرار بوجود قواسم مشتركة وحد أدنى انساني للأسس النظرية والفكرية والمعايير المفاهيمية الخاصة بحقوق الانسان، مع استمرار هذه الدول بالطبع في تأكيد مبدأي الاستقلال والسيادة. يعني التمييز ما بين الفئات المختلفة لحقوق الانسان، اقامة بعض الدول لبناء هرمي لحقوق الانسان يعكس اولوياتها ومصالحها الخاصة تجاه هذه الحقوق المختلفة، ويضع بعضها في مرتبة أعلى من الاخرى. والمثالان الابرزان في هذا السياق هما التمييز بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة اخرى، والتفرقة بين الحقوق الفردية من جهة والحقوق الجماعية من جهة اخرى. ففي عصر الحرب الباردة، ركزت الدول الغربية على الترويج والدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية في ظل سعيها الى اثبات ان نظمها - القائمة على الليبرالية - هي الوحيدة القادرة على ان تكفل احترام هذه الحقوق. وبالمقابل، ركزت الدول الاشتراكية على اعطاء الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعبرت عن فخرها لاتصاف نظمها بمراعاة العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والتوزيع المنصف للثروة والدخل. وانطبق الأمر نفسه على الحقوق الفردية والجماعية، فقد دافعت الدول الغربية عن حقوق الانسان باعتباره فرداً وليس من منطلق انتمائه الى جماعة بشرية اوسع، مع التقليل - وأحياناً عدم الاعتراف اصلاً - بحقوق جماعية مثل حق تقرير المصير والحق في التنمية والحق في الارث المشترك للانسانية. وعلى الجانب الآخر ايدت الدول الاشتراكية الحقوق الجماعية مؤكدة ان الانسان يشتق حقوقه الفردية من منطلق انتمائه لجماعة بشرية وفي حدود ما تمليه مصالح هذه الجماعة وأهدافها المشتركة. وامتد الاستقطاب ليشمل بلدان العالم الثالث فتبنت كل دولة من دوله موقف المعسكر الذي تتحالف او تتصادق معه. واستمر هذا التمييز في التعامل مع الفئات المختلفة لحقوق الانسان بعد انتهاء الحرب الباردة، فقد روج مفكرون ومثقفون لمقولة ان انتصار الغرب هو انتصار لنموذجه الليبرالي وما يمثله من قيم فردية وحريات مدنية وسياسية. وتزايد الربط السياسي بين الحصول على مساعدات واستثمارات وتسهيلات تجارية ونقل للتكنولوجيا وتخفيف لعبء الديون من جانب الدول الغربية وبين اتباع الدول المتلقية - سواء من العالم الثالث او من دول اوروبا الاشتراكية سابقاً - لهذا النموذج وقيمه ومعاييره. وأدى ذلك الى اختلال لغير صالح الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومجمل الحقوق الجماعية. الا ان دول العالم الثالث ادركت ان مصالحها الوطنية تحتم عليها مواصلة الدفاع عن الحقوق الجماعية في المحافل الدولية، خصوصاً الحق في التنمية والحق في الارث المشترك للانسانية. وبالمقابل غير بعض الدول الغربية من مواقف سابقة لها ازاء بعض الحقوق الجماعية، سواء جاء ذلك التغيير نتيجة بروز تصاعد تأثير مدارس فكرية جديدة، او تولي احزاب من اليسار ويسار الوسط للحكم، او تغير مصالح سياسية لهذه الدول املت تغييراً في التكييف النظري لهذا الحق او ذاك من الحقوق الجماعية. وأخيراً نقول ان الاشكالات الثلاث التي عرضنا لها بايجاز في هذا المقال تعكس استمرار حالة اللاحسم على المستوى المعرفي والمفاهيمي لحقوق الانسان على الساحة الدولية، ليس فقط ازاء الماهية وسبل الحماية وتحديد المعايير والضوابط، ولكن ايضاً يلقي بظلاله على امكانات وحدود وأبعاد ولاية المجتمع الدولي - ممثلاً في الأممالمتحدة - بشأن قضايا حقوق الانسان. والمهم هو ألا يساء توظيف حقوق الانسان لتشكل عبئاً على شعوب ودول وأقاليم بعينها او خدمة لمصالح دول اخرى قد لا تكون بالضرورة متسقة مع النوايا الحسنة والرغبات المخلصة في توفير حماية دولية لحقوق الانسان. * كاتب وباحث مصري.