اذا أردت أن تفهم العمل الذي تقوم به الصحف الاسرائيلية الجماهيرية الانتشار، فقد تجد من المفيد مراجعة هذا المقتطف من محاورة جمعتني قبل ايام بأحد الأصدقاء، وهو كبير المراسلين العسكريين لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، اكثر اليوميات الناطقة بالعبرية انتشاراً. في ذاك اليوم كان العميد السابق والعضو الحالي في الكنيست، افراييم سنِه، قد اطلق تصريحا ذُعرياً عرف الكثير من الشيوع الاعلامي، حول الخطر النووي الايراني على اسرائيل، مقترحاً، بقوة، ان يوجه جيش الدفاع الاسرائيلي ضربة وقائية مسبقة لايران "فيما لا يزال ثمة متسع من الوقت لذلك". الصحافي وانا وجدنا انفسنا على تمام الاتفاق حول ان التصريح يخلو، في جانب منه، من اي اساس، وانه، في جانب آخر منه، يقوم على التضخيم. وقد اتفقنا على ان ايران تطور قدراتها النووية الباليستيكية لأهداف دفاعية أساساً، وذلك تبعاً لجيرانها الأقوياء الهند والصين، وفي المستقبل العراق، وكذلك لتعزيز مطامعها الاقليمية خصوصاً في الخليج. أما اسرائيل، ففي معزل عن الالتزام الايديولوجي بالعداء لها من قبل النظام الايراني، فانها عنده لا اكثر من عدو في المرتبة الثانية. وهذا يعود لسببين: أنها بعيدة جدا عنها، وان الصراع معها يعتمد على سياسة الحليف الاستراتيجي لايران، اي سورية. والأخيرة ليست مهتمة في الوقت الحاضر بمبادرة تفضي بها الى نزاع مسلح مع اسرائيل، تبعاً لتوازن القوى الراهن. فسورية انما تكتفي بتحريك نشاطية حزب الله الذي يخوض حرب استنزاف في جنوبلبنان وقد قتل في 1998 وحتى الآن 22 جندياً اسرائيلياً، واطلق نقاشاً حاداً حول انسحاب اسرائيلي من طرف واحد. الصحافي: "تصريح سنه ليس فقط مبالَغاً فيه وعديم الارتكاز الى معطيات. انه ايضا غير مسؤول. انه قد يرفع اهميتنا في قائمة اعداء ايران، ويقود، من ثم، الى مواجهة عنيفة. انه محكوم عليه ان يكون عكسي النتائج. كل ما يشتهيه سنه هو ان "يستولي على العناوين" ويرفع شعبيته ويعزز اسمه. وهذا على حساب المصلحة الوطنية التي تستدعي تهدئة وترطيب كل التصريحات المتعلقة بإيران. نحن لسنا بحاجة الى الولع بتجارة الحروب. وأسوأ مما عداه أن هذا قد يرفع ايضاً البُعد الديني في النزاع العربي - الاسرائيلي. اننا لسنا بحاجة الى ذلك كله. انه يجعلني اتقيأ قرفاً". عمانوئيل سيفان: "اذا كان الامر هكذا، فلماذا تعطيه صحيفتك ذاك العنوان الضخم؟". الصحافي: "صدّقني إن رئيس تحريرنا رجل مسؤول. لقد تحدث معي بشأنه وتوليت اقناعه بأن يضعه في الصفحة الرابعة". ع. س: "لكنك ايضاً وضعت له على الصفحة الاولى عنواناً ذعرياً". الصحافي: "هل تعرف ماذا حصل؟ قبيل الطبع علمنا ان "معاريف" المنافسة الرئيسية ليديعوت ستنشر التصريح على الصفحة الاولى. لهذا لم يعد لدينا خيار غير مواكبتها. هذه هي قاعدة اللعبة في ظل تنافس صحافي محموم كالذي نعيشه. انه كلب يعض كلباً...". ع. س: "وتفعلون هذا ولو انه يتعارض مع المصلحة الوطنية بحسب تعريفك، انت نفسك، لها؟". الصحافي: "اسمع. هذا هو العالم الذي نعيش فيه. انه غابة حقيقية تسودها المنافسة التي تصل الى قطع البلعوم في ما خص مكانة الصحيفة وتوزيعها وتحسين عائداتها من الاعلانات. أنا وقلة قليلة في مجلس التحرير، مثل ناحوم بارنيا، غالباً ما نتذمر من هذا الوضع. لكن ما الذي نستطيع ان نفعله؟ علينا ان نكسب عيشنا في عالمنا هذا". ع. س: "مع هذا ففي نفس اليوم الذي اطلق فيه سنه تصريحه، كان ثمة حدث مثير آخر يصلح لاحتلال العناوين السمينة، وهو التعاقد على الانتحار الذي نفّذه شابان في بتاح تكفاه. ألم يكن هذا كافياً لتنشيط التوزيع؟". الصحافي: "نعم. التعاقد على الانتحار وتنفيذه لا بأس بهما، لكن دعني اخبرك ان ما من شيء يبيع اكثر من تخويف الناس بأن "أمننا الوطني في خطر". هل تعتقد انني احب هذا؟ بالطبع لا...". صديقي رجل محترم وعاقل، وصحافي بارز، يعرف الامور ويهتم بمعرفتها عن كثب. وهو ليس سينيكياً، كما يشغله نقل الخبر والتعليق عليه. كذلك فهو يتعامل مع نفسه كمهني وكرمز من رموز الجدية والضميرية في عصر الصحافة الجائعة للاثارة. واخيرا فهو ينعي، صادقا، حقيقة ان صحيفته تغدو صفراء. وقد يكتب مقالة لا تتعدى ال300 كلمة بحسب القاعدة المتبعة في يديعوت مثيرا الشكوك حول تصريحات سنه، الا ان المقالة قد يُدفع بها الى احدى الصفحات الداخلية فلا يقرأها كثيرون. وفي المقابل فكل اولئك الذين يشترون الصحيفة سيقعون على "تحذير" سنه مكتوباً بطريقة لا تخطئها العين. فالعنوان الضخم والكثيف الذي تُطربَش به بقية الصفحة لا يرتكز على اية معلومة جديدة والحقيقة ان كل شيء "جديد" تم ايراده خاطىء، فالصواريخ التي ظهرت في العرض الطهراني لم تكن شهاب-3 الشهيرة بل نوعاً أقدم عهداً. ذاك ان شهاب-3 الذي مارس سنه ذعريته انطلاقاً منه، لا يزال في المراحل الاولى من تطويره، فيما قد تعمل الضغوط الدولية ومعها الصعوبات التقنية - الادارية على اطالة عملية انتاجه. اذن كل ما وصلنا لا يعدو كونه تكهناً اطلقه سياسي جائع للشهرة العامة، من دون ان يكون من اصحاب المناصب الرفيعة. لكن الصحافة، على اية حال، توطأت، بإرادتها، معه اذ لم يجبرها احد على ذلك. وفي غضون ذلك فإن صديقي الصحافي ومعه زملاؤه يصرخون بلا انقطاع على امتداد الطريق الذي تنتهي بهم الى المصرف. العنوان السمين نفسه وغير المؤسس أيضاً على اية حقيقة هو ما اعطي لاحقا للخبر المتعلق بالخطر الثوري لطالبان افغانستان والذي يهدد بالفيضان على المنطقة كلها، او بالخطط التي يرعاها اسامة بن لادن الذي ينتشر عملاؤه في جميع الانحاء. ومع ان الأساس الحدثي للموضوعين يبقى هزيلاً، يبقى المهم مخاطبة المخاوف العامة الضاربة في الماضي والمحكومة بالبقاء على قيد الحياة. والحال ان هذه العناوين هي التي تقرر للرأي العام أجندته. لا بأس. لكن ماذا عن الاخلاق المهنية، كما قد نتساءل. حسناً، اننا نعيش في عصر تسيطر عليه ايديولوجيا اقتصاد السوق، وما يريده الناس يحصلون عليه. ذاك ان اقتصاد السوق يعرف سعر كل شيء ولا يعرف قيمة اي شيء.