يجب أن يكون هناك حدث ثقافي خطير في حياتنا الفردية أو الاجتماعية، كي نتذكره بيسرٍ وبساطة، كما حدث في العام 1988 عندما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب. وكان التكريم في جوهره، كما حاولنا أن نفهم، يخصّ حركة الإبداع اللغوي العربي، التي تخلصت من بلاغة الشكل لتدخل بلاغة المعنى. وهكذا كانت لي عين على حركة الثقافة في كل أحوالها وأشكالها وتطلعاتها ضمن مفهوم الإضافة التي نتوقعها. وهكذا لم أستطع أن أسجل في القائمة رحيل بعض البنائين العرب لصرح الإبداع، كنزار قباني وهادي العلوي، فيما لم أستطع أن أتأثر بحدث إيجابي بارز. كان لنا شعر كثير كالعادة يطغى فيه مديح النفس أو الآخر على غيره داخل الشعر، وظهرت روايات جديدة وكتب في القص أخرى، كما أن المسرح العربي شهد قلّة من الأعمال المطبوعة وسيلاً من الأعمال المقدمة والتي خرج معظمها من رحم السياحة العربية في ولادتها القيصرية. وانتشرت بين صفوف القراء شروح ونظريات فلسفية وعقائدية ونقدية عامة تتلمس التأكيد والتكرار، وشغلت الصالات بمعارض أعمال تشكيلية متعاقبة تألق القليل من لوحاتها أو تماثيلها، وتفوق، ليس على ما صنعته الإنسانية من قبل، بل لندرة أصابت وجه التطور. ولم أستطع أن أبيع طمأنينة روحي من أجل لحن موسيقى أو أغنية سيطرت على الذائقة العامة، بل كنت أصارع غلبة الأغاني التي اتكأ بعضها على عصي التقاليد ليمشي بشكل أعرج في دهاليز السمع، وان كانت بعض الأغاني التي تشربت عبر ذلك المحيط المشوش، كتلك التي أدت بعضها ماجدة الرومي والتي تعتبر حالة تكفير عن التدهور الحضاري للأغنية العربية. وصمّت أذنيّ قصائد المديح الموجهة للفنون المرئية، تلفزيونية كانت أم سينمائية، وتحول الإعلام الرسمي الى أبواق مجانية لترويج أعمال الشركات الخاصة والعامة على حد سواء، ولهذا باتت أية مراجعة نقدية واعية لواحدة من تلك الأعمال، معرضة لتهم قاسية، مع ان تناولها ضمن سياق التطور المنطقي الهادىء لتلك الفنون المحدثة قد يؤدي الى نتائج إيجابية مستحبة. ولهذا توقف الحوار الذي يساهم في بناء الثقافة السليمة، وانضم النقد الى مروجي التهليل الذي قد يقتل الديموقراطية التي تحتاج اليها حالة التطور الاجتماعي. لا يمكن اعتبار مشاركة ممثل أو ممثلة جادة في تصوير فيديو كليب تؤديه مغنية ساذجة أمراً ثقافياً يمكن تصنيفه كحدث ثقافي بارز، كما ان استمرار العملية التعليمية في اطارها المقيد لا ينم عن أمل في تسجيل حدث ثقافي، والتفتيش عن قناة تلفزيونية عربية بتمويل حكومي أو خاص لن يعطي برقاً ثقافياً قد يضيء ظلام الواقع، والسباق الآن بين محطات التلفزيون العربية هو مجرد سباق النصر في تقديم التسلية الموقتة دون البناء الثقافي، ليس بمعناه الأدبي والفني وحسب بل يتجاوزه الى فقدان المشروع الثقافي الذي يهدف الى بناء الشخصية المأمولة، وتصبح الدعاية الدؤوبة للأنظمة السياسية مجرد غطاء يحجب الهدف الثقافي عن وصول الهدف النهائي. وهكذا لم نشاهد بعد صرحاً معمارياً بني حديثاً، مهماً ومؤثراً، كالذي حدث في سابق العصور، أو في زمن كان فيه للعمارة معنى حضارياً بارزاً. ولم يسجل مسؤول بارز مشهد قصٍّ للشريط لمتحف يعبر عن ثقافة ما. ويبدو كذلك أن تعقد الحياة من حولنا قد حجب ظهور أعمال قد تكون مهمة، لكن الصرح الثقافي العام لا يومض بأهمية كبرى، لذا فإن شيئاً كالخمول الثقافي أو أنه اليباب قد أصاب الحالة الثقافية، كما يصيب التصحر الأراضي الزراعية ببطء شديد. ان طموحنا الإنساني يتطلع دوماً الى تأكيد الإبداع في حياتنا اليومية، وهذا يجعل من مطامعنا أمراً مشروعاً يفسر سرّ تمسكنا بالحياة، لذا فإن يأسنا من العثور على حدث ثقافي أو أحداث مهمة سيعرقل مشروعية الطموح ويجعلنا أكثر تدقيقاً في البحث من ذلك الحدث، ولو أننا تخيلناه كي نوجده حقيقة، وذلك التدقيق بحاجة الى أناس أكثر تفاؤلاً من جيل توالت عليه الهزائم حتى بات يرى الحقائق من منظار مظلم. * كاتب سوري.