بعد سنوات طويلة من الأخذ والرد اتفق وزراء المالية في بلدان منطقة يورو العملة الأوروبية الموحدة خلال اجتماعهم في بروكسل اوائل الشهر الجاري على الجهة التي ستمثل عملتهم الجديدة امام المحافل والاجتماعات الدولية. وبموجب الاتفاق سيكون رئيس مجلس بلدان المنطقة المذكورة، التي تضم احد عشر بلداً المانيا، فرنسا، ايطاليا، اسبانيا، هولندا، بلجيكا، النمسا، فنلندا، البرتغال، ايرلندا واللكسمبورغ الناطق الرسمي باسم العملة الجديدة. وتنتقل هذه الرئاسة بالتناوب كل ستة اشهر من بلد الى آخر. ويشارك في الاجتماعات رئيس البنك المركزي الأوروبي كمسؤول وكمتحدث عن السياسة النقدية الخاصة باليورو. ومع الاتفاق عن التمثيل الخارجي للعملة الأوروبية تنتهي آخر العقبات امام انطلاقة العملة الجديدة بعد بضعة أيام او مطلع السنة الجارية. ومع انطلاقتها ستبدأ مرحلة جديدة في تاريخ بلدان اليورو والعلاقات النقدية الدولية. فالعملة الجديدة التي ستحل محل العملات الوطنية لبلدانها ستوفر حسب الخبير الاقتصادي الألماني الدكتور غوستاف - ادولف هورن من معهد البحوث الاقتصادية في برلين المزيد من فرص النمو والازدهار. ويدعم تحقيق ذلك تمتع هذه البلدان باستقرار سياسي واقتصادي افضل من مثيله في البلدان الصناعية الاخرى. وتتمثل عناصر الاستقرار في نسب التضخم المنخفضة، دون 1.5 في المئة، وتدني عجز الموازنات... الخ. كما ان اليورو سيمنحها قدرات اضافية على مواجهة نتائج الازمات الاقتصادية التي حلت ببلدان آسيا وروسيا انطلاقاً من فوائد السوق الواسعة. كيف سيتم طرح اليورو؟ مع انطلاقة اليورو ستبدأ مرحلة انتقالية يتم فيها التعامل بشكل حسابي او خطي الى جانب التداول العادي بالعملات الوطنية من مارك الماني وفرنك فرنسي وليرة ايطالية كالمعتاد. ويعني ذلك انه يمكن التعامل باليورو بواسطة الشيكات والتحويلات والقروض والأسهم من دون الاوراق والقطع النقدية المعدنية. وستمتد هذه المرحلة حتى اواخر سنة 2001. ومع مطلع 2002 سيتم طرح الأوراق والقطع النقدية الخاصة باليورو للتداول العادي الى جانب مثيلاتها من العملات المحلية للبلدان المعنية. وسيتمكن السكان والمتعاملين الآخرين بعدها من الدفع اما بالعملات الوطنية او باليورو لمدة ستة اشهر اي لغاية اواخر حزيران يونيو من السنة المذكورة. واعتباراً من اول تموز يوليو ستفقد العملات المحلية صلاحياتها في التداول، حيث سيصبح اليورو العملة الوحيدة السارية المفعول. ويخشى الكثيرون من سكان الاتحاد الاوروبي التي تتمتع بعملات قوية ومستقرة كألمانيا وهولندا من ان تحويل عملاتهم الى اليورو سيفقدها جزءاً من قوتها. ويشاطرهم الخشية العديد من اولئك الذين يحتفظون بهذه العملات بمحافظ استثمارية وغيرها. غير ان هذا الخوف لا مبرر له. فاعتماد اليورو كما يقول الخبير غوستاف - ادواف هورن لا ينطوي على عملية اصلاح نقدي يتم من خلالها تخفيض قيمة عملة او رفعها. فحلوله مكان عملات البلدان المعنية سيتم على اساس تبديلها به وفقاً لأسعار محددة تتناسب والقوة الشرائية لكل منها. وتم تثبيت هذه الأسعار خلال قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت في بروكسل اوائل ايار مايو الماضي بما يتناسب والثقل الاقتصادي لكل بلد على حدة. ووفقاً لذلك فان كل 1.95 مارك الماني او 6.55 فرنك فرنسي او 1934.00 ليرة ايطالية... الخ انظر الجدول تعادل يورو واحد. وسيكون لهذا الاخير قوة شرائية تعادل قوة الوحدات التي تم تبديلها به. بمعنى آخر ان فان السلعة ان الخدمة التي كانت بسعر 1.95 مارك الماني مثلاً يمكن الحصول عليها بپيورو واحد او اكثر ببضع سنتات اذا اخذنا بعين الاعتبار ان هناك مصاريف تحويل وتبديل طفيفة سيتحملها المستهلك في البداية على الارجح. منافع اليورو بالاضافة الى اتاحة فرص نمو جديدة سيساعد اليورو على تحقيق وفورات اعتماد عملة مشتركة. وسيتم توفير بلايين الدولارات من خلال انتفاء رسوم التصريف وتذبذب اسعار العملات تجاه بعضها البعض. وسيتمتع مواطنو بلدان اليورو والمقيمون فيها والقادمون اليها بقصد السياحة او العمل بقسم من هذه الوفورات. ويرى العديد من خبراء السياحة ان منطقة يورو ستصبح جنة سياحية داخلية. ويتوقع رئيس مكاتب السياحة والسفر في المانيا غيرد هاسلمان ان ينمو القطاع السياحي بنسبة 10 في المئة خلال فترة قصيرة. وسيستفيد السواح ورجال الاعمال العرب من وفورات اليورو. فهؤلاء لن يعودوا على سبيل المثال بحاجة لدفع رسوم لقاء تبديل ماركاتهم الألمانية او فرنكاتهم الفرنسية وغيرها بالعملات التي يحتاجونها. كما ان عملية مقارنة اسعار البضائع والخدمات الأوروبية المتشابهة ستصبح سهلة بالنسبة لهم سواء اكانوا في اسبانيا او فرنسا او المانيا وغيرها من بلدان يورو. من ناحية اخرى، فان اليورو سيساهم في التعجيل باعادة هيكلة القطاع الصناعي والأسواق المالية لبلدانه بحيث تصبح اكثر كفاءة. غير ان تحصيل منافع اليورو سيقابلها تقديم تضحيات. وسيفرض ذلك نفسه على سبيل المثال من خلال اشتداد حدة المنافسة بين الشركات والمؤسسات. فالذي لا يستطيع منها تحسين مستوى انتاجه بشكل مستمر على اساس زيادة الجودة ورفع مستوى الانتاجية سيكون مضطراً للخروج من السوق. وقد يؤدي ذلك الى زيادة عدد العاطلين عن العمل في الفروع الاقتصادية الضعيفة الكفاءة. لكن حجم المضار سيكون اقل من حجم المنافع بكثير لا سيما اذا تمكنت بلدان الاتحاد من رفع درجة تنسيق السياسات الاقتصادية في ما بينها. وينبغي لهذا التنسيق ان يتجاوز المجال النقدي والمالي الى مختلف المجالات الاخرى. اليورو والدولار والجنيه والعملات الاخرى يرى الخبير الاقتصادي الألماني الدكتور هاينر فلاسبيك مدير قسم الازدهار بمعهد البحوث الاقتصادية ببرلين ان اليورو سيكون منافساً فعليا للدولار وان الثقل الاقتصادي لمنطقته يقترب من مثيله الخاص بالولاياتالمتحدة. وسيكون العملة المهيمنة في أوروبا كما هو عليه الحال بالنسبة للدولار في القارة الاميركية. ومن المرجح ان سعره سيرتفع مقابل هذا الاخير لأن الأسعار في منطقة اليورو اكثر استقراراً منها في منطقة الدولار. ويتمتع الاتحاد الأوروبي بفائض في ميزان المدفوعات مقابل عجز تعاني منه الولاياتالمتحدة على هذا الصعيد. كما ان البنك المركزي الأوروبي الذي سيتولى شؤونه يتمتع باستقلالية عالية. غير ان هيمنة اليورو في اوروبا لن تجلب اضراراً كبيرة للولايات المتحدة ومنافع حاسمة لأوروبا. فالمسألة لا ترتبط بعدد وحدات اليورو بقدر ارتباطها بمدى تنسيق بلدانه في مجال السياسات الضريبية والاقتصادية الاخرى من جهة وبمدى تمكنها من اعادة هيكلة اقتصاداتها لتصبح اكثر كفاءة وقدرة على المنافسة من جهة اخرى. ونظراً للموقع المهيمن الذي سيحتله اليورو في اوروبا فان عملات بلدان الاتحاد الأوروبي الاخرى التي لا تدخل منطقته كالجنيه الاسترليني ستدور في فلكه على الارجح. وقد شهدنا اخيراً على سبيل المثال كيف قام البنك المركزي البريطاني بتخفيض الفائدة على الجنيه متأثراً بقرار مماثل اتخذته بلدان يورو على عملاتها. وبالنسبة للبلدان الأوروبية التي لا تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي فسيكون عليها عاجلاً ام آجلاً ربط عملاتها باليورو على اساس وضع حدود لتذبذب قيمها تجاهه. وفي البلدان العربية سيطرح اليورو نفسه كعملة لاحتساب قيمة الصادرات او قسم منها. وسيتم ذلك على نطاق اوسع في بلدان شمال افريقيا كون تجارتها ترتبط بشكل اوثق مع بلدان الاتحاد الأوروبي قياساً الى البلدان العربية الاخرى. وتشكل تجارة مادة النفط مثالاً ملموساً على ذلك. فستعير قسم مهم منها يمكن ان يتم ايضاً باليورو بدلاً من الدولار. كما ان العديد من هذه البلدان ستتخذه عملة احتياطية رئيسية بشكل متزايد. وسيتعلق مدى ارتباطها بهذ واعتمادها عليه بسياساتها المالية وبمدى تطوير التعاون الاقتصادي بينها وبين بلدان منطقته. ويعتقد الخبير هاينر فلاسبيك ان اليورو سيكون محط انظار قسم مهم من الودائع والاستثمارات العربية نظراً للاستقرار المتوقع له. فوجود مثل هذه الودائع باليورو سيظل من عناصر المخاطر الناتجة عن ايداعها بالعملات الاخرى كالفرنك السويسري الذي فقد الكثير وسيفقد الكثير من ميزاته مع بروز العملة الاوروبية الجديدة. * اقتصادي سوري