كنتُ في سن الثامنة عشرة حين سافرتُ إلى الخارج للمرة الاولى، قضيت في انكلترا ثلاثة اشهر صيف 1950، كنت خلالها سعيداً بكل دقيقة، مبهوراً بكل شيء، متعجباً لكل ما أرى حولي، مسجلاً مظاهر الاختلاف عما كنت أعهده في بلدي. ثم تمر الأيام والسنون، فإذا بي وزوجتي العام 1976 نقرر اصطحاب بناتنا الثلاث الى لندن، يشاهدنها للمرة الأولى: الصغرى في الثامنة من العمر، والوسطى في العاشرة، والكبرى في الثانية عشرة. كنت طوال رحلة الطائرة من نيجيريا الى انكلترا اتطلع الى مراقبة تأثير ما سيرونه فيهن، وتعابير الدهشة والانبهار ترتسم على وجوههن، وصيحات العجب تبدر منهن. وكانت النتيجة أنني كنت وحدي من ارتسمت على وجهه الدهشة، دهشة يخالطها شعور الاستياء، إذ اراهن غير مندهشات لشيء، غير مبهورات بشيء، يتنقلن من ميدان الطرف الأغر، الى جسر واترلو، الى متحف مدام تيسو، الى قصر هامبتون كورت الى حديقة هايد بارك، وكأنما يتنقلن من الزمالك الى المعادي الى مصر الجديدة. وإذ عبّرتُ لزوجتي في حزن عن خشيتي من ان تكون بناتنا متبلدات الاحساس، اجابت تطمئنني بأن الامر لا يتعدى سببين، الاول: كثرة مشاهدتهن للأفلام والبرامج التلفزيونية عن مختلف بلدان العالم، وما أدى إليه ذلك من تبدد إمكان الانبهار وعنصر المفاجأة، والثاني: ذلك التضاؤل التدريجي والسريع في مظاهر اختلاف الحياة في مختلف الدول في نصف القرن الأخير. كان يقال لنا في صبانا "سافروا ففي السفر خمس فوائد". لا اذكر بالضبط تلك الفوائد الخمس، غير انه لا شك عندي ان أضخمها هو اطلاع المسافر على مجتمعات وحضارات شديدة التميز عن مجتمعه وحضارته، وعلى اساليب عيش وظروف متباينة، وعلى أنماط من الناس غير النمط الذي ألفه في وطنه. لكن يبدو ان اتساع نطاق السياحة، والزيادة المذهلة في أعداد المسافرين في زمننا هذا الى اقطار اجنبية للاستجمام أو التعليم أو العلاج أو دواعي العمل والتجارة أو حضور المؤتمرات والمهرجانات، الى آخره أسهما اسهاماً خطيراً في إزالة الفوارق الضخمة بين البلدان، بل بين طبائع سلوك الافراد فيها، واسهما بالتالي في تقليص إمكان العجب أو الانبهار. تقاربت أنماط العيش وأنماط التفكير والاهتمامات والتسلية وقضاء وقت الفراغ وأنماط الشوارع والابنية والحدائق، وكيف يمكن ان تحقق لك فائدة وانت تنتقل من شيراتون لندن الى شيراتون القاهرة الى شيراتون نيودلهي الى شيراتون اسطنبول، فتصادف فيها النوعية نفسها من موظفي الفنادق، وتلقى المعاملة نفسها، وتأكل نفس اصناف الطعام، وتدفع نفس نفقات الإقامة؟ وكيف يمكن ان يتكرر مع بناتك انبهارك نفسه بنظام "الاندر غراوند" في لندن العام 1950، وقد بات لديهن في القاهرة الآن مترو الانفاق؟ أو كيف يمكن أن يستغربن المأكولات الصينية عند زيارتهن شنغهاي، وعندهن في العاصمة المصرية ما لا يقل عن ثلاثين مطعماً صينياً؟ انا شخصياً، وقد بلغت السادسة والستين، لم اعد الآن أجد أدنى لذة أو فائدة في السفر. كانت اللذة والفائدة متوفرتين قبل خمسين عاماً حين كان يزور لندن عدد جد محدود من المصريين، ويزور القاهرة عدد جد محدود من الانكليز، ثم اعود الى بلدي او يعود الانكليزي الى بلده فنُمتّع اسماع الاهل والاصدقاء وندهشهم بسرد الغرائب مما صادفنا أو رأينا. أما وقد رأى كل قاهري لندن، وكل لندنيالقاهرة، وصرت اجد سندوتشات الفول والفلافل والكباب في كل حي من احياء لندن، وصارت تقدم الى الانكليزي مع افطاره في الفندق في القاهرة شرائح اللحم والبيض والسوسيس، وصرت اسمع من اللغة العربية في محلات "سيلفريدجز" و"ماركس اند سبنسر" و"هارودز" اكثر مما اسمعه من اللغة الانكليزية، وصار كل عامل في محلات ومطاعم وفنادق القاهرة واماكنها السياحية يبادر متطوعاً "بلوي لسانه" بلغة السائح الذي يتأبط عدد اليوم نفسه من صحيفة "التايمز" أو "الموند"، فما الذي بقي لنا من السياحة والسفر غير عنائهما وعناء الانتظار في صالة المطار لساعة إقلاع الطائرة وانتظار وصول الحقائب وانتظار دور تفتيش أمتعتنا في الجمرك وانتظار سيارة الاجرة التي تقلنا الى الفندق، وانتظار الدور في الصف في المصرف لتحويل العملة والتفكير في ما ينبغي علينا دفعه من "بقشيش"، أو في ما إذا كان البائع او الغارسون سعى الى أن يغشنا في الحساب وقد رآنا من الاجانب؟ بوسعي ان اؤكد انه في ما عدا بعض الاختلافات في الطقس، وبعض الآثار، وبعض الجبال أو البحيرات هنا أو هناك لم يعد ثمة فارق كبير بين هذا البلد أو ذاك. في السياحة، كما في الاقتصاد، ينطبق قانون الغلّة المتناقصة: كلما اتسع نطاقها قلت فائدتها، وكلما كثر المنتفعون بها تضاءلت قيمتها، وعلى قدر عدد المستمتعين تزول المتعة. ذلك ان ثمة مجالات عدة من الخبرات البشرية نجد ان جانباً كبيراً مما تنطوي عليه من لذة وسعادة يتصل بحقيقة انها مقصورة على قلة من الناس، على صفو من القوم، وحقيقة انها تشكل حلم الغالبية التي تتأوّه شوقاً وتطلعاً اليها. فأية متعة يا تُرى يمكن ان يجدها السائح الياباني مثلاً في مدينة ككمبريدج في انكلترا، وهو يرى المئات من السياح اليابانيين قد سبقته إليها وستعقُبه فيها كلٌ منهم علّق حول رقبته آلة التصوير، ويمسك بيده دليل السائحين، ويقصد الحدائق والكنائس والكليات الجامعية نفسها؟!