ينساب صوت مغنية الأوبرا التونسية زبيدة عمر رقيقاً ساحراً بين أعمدة كنيسة قرطاج فيداعب مسامع عشرات الديبلوماسيين ورجال الثقافة والفن الذين غصت بهم المقاعد فظل قسم كبير منهم واقفاً يتابع في تركيز شديد انطلاق حنجرة زبيدة من طبقة موسيقية الى أخرى محاكية أشهر قطع الأوبرا الغربية. تكرر المشهد في كنيسة قرطاج ست عشرة ليلة طيلة الشهر الماضي إلا ان العازفين تغيروا اذ جاءت اشهر فرق الأوبرا الاميركية والنمسوية والتشيكية والسويسرية والهولندية والروسية لتعزف أفضل ما عندها، بالإضافة الى سهرة الافتتاح مع عازف البيانو التونسي مهدي طرابلسي الذي أدى قطعاً جميلة لشوبان وبيتهوفن وبروكوفياف وبارتوك. واستطاعت الكنيسة العريقة - التي أنقذت من التلاشي بعد ثلاثين عاماً من الإقفال وحولت أخيراً قصراً للفنون - ان تستقطب الفئات الراقية من رجال الأعمال والأطباء والمثقفين والسفراء والرسامين. تحتل كنيسة قرطاج، وهي أهم كنيسة في شمال افريقيا، مكانة تاريخية بارزة كونها كانت منطلقاً لحملات دينية واسعة في المنطقة، الا انها أعطت نتائج عكسية إذ ألهبت مشاعر الناس وشكلت وقوداً للزعامات الوطنية لمقاومة الانتداب الفرنسي. تمتد البناية على مساحة 1200 متر مربع بالإضافة الى ساحات خارجية وأراض فسيحة أقيم عليها "متحف قرطاج" الذي يضم نفائس الآثار الباقية من العاصمة الفينيقية التي نافست روما على النفوذ في المتوسط. وتتميز الكنيسة بأقواسها وأشكالها الدائرية وقبابها ذات النوافذ البلورية الملونة وأعمدتها المئة والستين التي تسند سقوفاً من الخشب المزركش بالنقوش الافريقية القديمة. وأجمل ما فيها تيجان الأعمدة المطلية بالذهب. ولعل ضخامة البناية شجعت على اقامة احتفالات ضخمة فيها في 1931 لمناسبة مرور قرن على احتلال الجزائر 1830 ونصف قرن على احتلال تونس 1881 في حضور أعداد كبيرة من الأساقفة والمطارنة والرهبان الذين أتوا من بلدان الحوض المتوسطي لعقد المؤتمر الافخاريستي ما أدى الى احتكاك شديد مع الحركة الوطنية التي وصفت الاحتفالات بكونها حملة صليبية جديدة. في مطلع التسعينات نشط المثقف التونسي مصطفى العقبي العائد من أوروبا لإقناع المسؤولين في وزارة الثقافة بضرورة استثمار الكنيسة ذات العمارة الفريدة في نشاطات ثقافية، وباشر تجميع الاعتمادات لإصلاحها ووقع اتفاقاً مع الوزارة في العام 1992 لإدماج الكنيسة مع مزارات سياحية في قرطاج وسيدي بوسعيد والمرسى تشكل حالياً شبكة ثقافية - أثرية متكاملة. وتكرس الدور الجديد للكنيسة بعد ثلاثة أعوام من العمل المستمر لترميمها وإعادة إعمارها، وباتت تستقطب الفاعليات الثقافية الكبيرة التي تتناسب مع حجمها، اذ عرضت فيها العام الماضي أكبر لوحة زيتية في العالم قبل نقلها لتعرض في الولاياتالمتحدة. إلا ان مصطفى العقبي المفتون بالموسيقى الكلاسيكية ربط اسم الكنيسة بشهر الأوبرا الذي صار تقليداً يقام في تشرين الأول اكتوبر سنوياً والذي يستقدم خلاله أشهر عازفي السمفونيات الكلاسيكية ماحياً الصورة القاتمة السابقة للكنيسة.