"الفلاسفة حاولوا تفسير العالم، والمسألة على أي حال تكمن في تغييره". هذا القول المشهور للفيلسوف الألماني كارل ماركس يرفضه الكاتب الاقتصادي البريطاني بول أرمرود، الذي يقول "إن السياسيين حاولوا تغيير العالم والمهمة الحقيقية هي تفسيره". والتفسير الذي يقدمه البروفيسور أرمرود في كتابه الجديد "اقتصاديات الفراشة"* بالغ البساطة: الاقتصاد العالمي تتحكم فيه القرارات الفردية للناس. والناس يتصرفون كالنمل الذي يتأثر بما يقرره النمل الآخر في العش. هذه الحقيقة، التي يعترف الباحث البريطاني ببساطتها المبتذلة وراء تعقيد البناء الاقتصادي العالمي، وهي السبب في استحالة التحكم بالأسواق أو التنبؤ بتقلباتها. فعالم الاقتصاد والمال يقوم على حافة الفوضى، حيث يمكن أن يُحدث خفق جناح فراشة في غابات الأمازون أعاصير مدمرة على الجانب الآخر من المحيط الهادي. إذا وُضعت حفنتا طعام على مسافة واحدة من عش النمل سيتقاطر النمل نحو الحفنة التي عثرت عليها أول نمله. فهذه النملة تعود الى العش وتصدر إشارات كيماوية يتبعها أفراد النمل الآخرون الى حفنة الطعام ذاتها. النملة الأولى عثرت على العش بشكل عشوائي، لكن النمل الآخرىن الذين يقلدونها سيواصلون الرواح والمجيء بشكل منتظم. هذا يعني بالمفهوم الاقتصادي أن الأفراد يتأثرون مباشرة بسلوك الآخرين. واكتشف علماء الأحياء عندما كرروا التجارب على النمل أن نملة من بين مئات النمل الخارج لجلب الطعام سرعان ما تعثر بالصدفة على حفنة الطعام الاخرى. تقوم آنذاك أمام كل نملة تغادر العش 3 خيارات: إمّا أن تواصل زيارة حفنة الطعام التي قصدتها من قبل، أو تتبع النملة التي اكتشفت الحفنة الاخرى، أو تعثر هي بالصدفة على الحفنة الاخرى. وسيتأرجح عدد النمل الذي يقصد كل حفنة صعوداً ونزولاً بشكل عشوائي غير قابل للتنبؤ اطلاقاً. جناح الفراشه هكذا. حركة عشوائية لنملة واحدة قد تحدث تحولات دراماتيكية، مثلما يحدث خفق جناح فراشة في غابات الأمازون أعاصير على سواحل الهادي البعيدة. فكرة جناح الفراشة ابتكرتها فيزياء الفوضى لتصوير كيف يمكن أن تؤدي اختلافات طفيفة جداً في مدخلات الكومبيوتر الى اختلافات ضخمة في المخارج. وتساعد قوانين الفوضى الرياضياتية على فهم الحركة الفوضوية لقلب الانسان والتي قد تحدث السكتة القلبية، كما يستخدمها خبراء المناخ للتنبؤ بحركة العواصف والأعاصير المدمرة. على الغرار نفسه تتأرجح أسواق العملات والأسهم ودورات الأعمال والاقتصاد. وتكشف الموديلات الرياضياتية الموضوعة بمساعدة الكومبيوتر عن تشابه واضح بين فوضى حركة النمل وتأرجحات نمو اجمالي الناتج الوطني في الولاياتالمتحده. هذه الحقيقة تنسف التصورات الأساسية في الفكر الاقتصادي التقليدي، وفق تقدير بول أرمرود، الذي يرأس قسم التقويم الاقتصادي في مجلة الأعمال المرموقة "إيكونوميست" The Economist. فهو يرى أن الاقتصاد على خلاف تصورات المخططين الاقتصاديين أكبر بكثير من مجموع أجزائه. ولا صحة لقوانين العرض والطلب التي تعتبر جوهر التفكير الاقتصادي، وما يقال عن تحكم الحكومات والبنوك بالاقتصاد ليس سوى وهم محض. نظريات المؤامرة "السوق لا تعود سوقاً إذا عرف اللاعبون فيها حركتها". وشكك الباحث البريطاني بالتصورات حول وجود مؤامرات للتحكم بالاقتصاد العالمي، وقال في جواب عن سؤال "الحياة" إن زعماء الدول والحكومات استسلموا بين وقت وآخر لاغراء اتهام الدول الاخرى بالتآمر. ففي الستينات اتهم هارولد ولسن رئيس الحكومة البريطانية آنذاك سويسرا بالتآمر على الجنيه الاسترليني. ويردد زعماء بعض الدول التي تتعرض اقتصاداتها حالياً لاضطرابات سببها طبيعة الأسواق الموجودة دائماً على شفى الفوضى أفكاراً مماثلة. هل للأزمة المالية العالمية علاقة بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الجديدة التي تحرك تريليون دولار يومياً حول العالم؟ يستبعد ذلك بول ارمرود، مشيراً الى الكساد العظيم الذي هز الاقتصادات العالمي في العشرينات والثلاثينات. لم يكن هناك وجود لهذه التكنولوجيا الجديدة آنذاك، كما لم يكن لها وجود عند انهيار أسواق هولندا وبريطانيا في القرن الثامن عشر، ولا يمكن اعتبارها مسؤولة عن انهيار السوق المالية في ألبانيا قبل سنتين. أقلّ أفضل هل يعني هذا الاستسلام لحركة الاقتصاد العشوائية واعلان العجز أمامها، وهل تؤدي الفوضى الحالية الى تكرار مأساة الكساد العظيم التي وقعت في الثلاثينات؟ يستبعد الباحث البريطاني حدوث ذلك، ويعتقد أن الحكومات ليست عاجزة تماماً، ويرى أن فوضى الاقتصاد لا تعني عدم وجود هيكل اقتصادي. "لا قطعاً. فهناك نسق معين وتنظيم ذاتي، لكن ليس بالطريقة التقليدية. وعلى الحكومات أن تبتعد الى الخلف وتلقي نظرة أوسع بدلاً من التدخل المستمر. وفي السياسة الناجحة أقلّ يمكن أن يكون أفضل". وتساعد الاكتشافات الجديدة في علوم الأحياء والرياضيات على فهم حركة الاقتصاد، الذي لا يشبه الآلة كما يعتقد الاقتصاديون التقليديون، بل هو أشبه ما يكون بالكائن الحي. وعلى رغم انفاق الحكومات مبالغ طائلة على التخطيط الاقتصادي، فإن نظام الاقتصاد بطبيعته معقد وغير خاضع للتنبؤ. وهذا سبب الاخفاقات التي واجهتها السياسات الاقتصادية اليسارية واليمينية على حد سواء. النمل والمضاربون النصيحة الرئيسية التي يقدمها بول أرمرود للحكومات هي أن تفعل عكس ما تفعل الآن بالضبط: أن تتدخل بشكل أقل لكن أقوى. هذا ما تحتاج أن تفعله الحكومات الآن في رأيه. أن لا تتدخل في الظواهر الملازمة للاقتصاد، مثل محاولة تعديل دورات الأعمال وتقلبات أسواق العملة الملازمة لاقتصاديات الأسواق، بل تركز على سياسات الاستثمارات الاستراتيجية والاتجاهات الاقتصادية بعيدة المدى. وتكشف دراسة النمل أن أسعار العملة تحافظ فترة كبيرة على مستوياتها حالما تنخفض بشكل كبير أو ترتفع بشكل كبير. هذا الاصرار قد يزول إذا وجد ميل قوي للأشخاص لتغيير سلوكهم. ولا تستطيع الحكومات أبداً أن تمنع تقلبات العملة، لكنها يمكن أن تشجع المضاربين، بدلاً من كبحهم، وذلك عن طريق المساعدة على جعل فترات التقلبات أقصر بكثير مما هي في العادة. "فالمضاربة التي تُصور غالباً باعتبارها عدوة الحكومات، يمكن حفزها على تحقيق الأهداف المرجوة". * المؤلف: Paul Ormerod، عنوان الكتاب: Butterfly Economics. الناشر: Faber &Faber