"إذا فُرضت عليكم الهزيمة جنّوا"! هذه هي النصيحة التي تقدمها أحدث نظريات "اللعب". و"اللعب" علم أوجده علماء الكومبيوتر والرياضيات لاستقراء الصراعات العسكرية والسياسية والاقتصادية والتحكم بها. تستخدم "نظرية اللعب" الرياضيات والحدس للتنبؤ بردود الأفعال، وحساب مردود كل تصرف وصولاً الى النتيجة المطلوبة. وجرى تطوير هذه النظريات في مراكز الدراسات الاستراتيجية الأميركية، مثل مؤسسة "راند" في كاليفورنيا وقيادة الطيران الاستراتيجي. وهي تُستخدم في رسم السياسات العليا وصنع القرارات المهمة، كما حدث خلال أزمة الصواريخ الكوبية وحرب الخليج. وغالباً ما يجري شرح نظرية اللعب بالاعتماد على فيلم جيمس دين المشهور "ثائر بلا قضية": في سباق السيارات يندفع بطلا الفيلم المراهقان بسيارتيهما في اتجاه حافة هاوية. الخاسر هو الذي يجبن قبل الآخر ويتصرف كالدجاجة المذعورة التي تهرب من الصراع. لذلك يطلق على هذا الموقف في نظرية اللعب اسم "الدجاجة". وتقضي نظرية اللعب التي نال واضعها العالم الأميركي جون ناش جائزة نوبل في الاقتصاد بأن كل لعبة تصل الى حال التعادل، ويبلغ أقصى حاصل حسابات الجانبين الصفر. لأن أي جهد يبذله اللاعب يقابل بخطوة معادلة من الغريم. اطلق على النظرية اسم "تعادل ناش" وشكلت الأساس الرياضي لما يسمى "التوازن النووي"، أو "توازن الرعب"، الذي تحكم بالعالم طوال سنوات الحرب الباردة. ولكل لعب نهاية، كما يقول التعبير العربي الدارج. لا تستثنى من ذلك نظرية الألعاب التي قامت على أساس الصراع بين قطبين. أسئلة محيرة تواجه المخططين الاستراتيجيين اليوم: ما هي قواعد اللعب في عالم يتحكم به قطب واحد، وكيف التصرف في حال نشوء عالم متعدد الأقطاب؟ في البحث عن الأجوبة يلجأ المخططون الى حرب الخليج التي أصبحت مختبر تجارب للتكنولوجيا العسكرية والعلوم الاستراتيجية. يقود أحد الاتجاهات الجديدة عالم الرياضيات البريطاني نايجل هوارد، الذي عمل مستشاراً للحكومة الأميركية في مفاوضات الأسلحة الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدة وروسيا. ويروي نايجل هوارد في كتاب عن نظريته الجديدة يصدر قريباً كيف استأجر وزميل له سيارة تاكسي في القدس عام 1991. وخشية أن يطلب السائق اجرة عالية قررا تأجيل الاستفسار عن الاجرة حتى الوصول الى الفندق، حيث يصبحان في موقع تفاوضي أقوى. لكن استراتيجيتهم التي اعتمدت على الاسس العقلانية لنظرية اللعب باءت بالفشل التام عندما انفجر سائق التاكسي بالغضب وأغلق الأبواب واستدار عائداً بهم الى النقطة التي استقلوا السيارة منها. والسؤال هو: أين أخطأ العالمان المرموقان في التخطيط الاستراتيجي، فخسرا المعركة مع سائق تاكسي؟ التفسير الذي يقدمه العالم البريطاني هو أن سائق التاكسي الفلسطيني يجهل قطعاً نظرية اللعب، لكنه يعرف الألعاب التي يلعبها الناس عليه، ويكرهها. لذلك قام بشيء لا يحبه المنظرون الاستراتيجيون: تملّكه الغضب وتصرف بشكل غير عقلاني ضد مصلحته الشخصية في الحصول على أي أجر وغيّر اللعبة بالكامل. وهكذا ولدت النظرية الجديدة ويطلق عليها اسم "الدراما". النزاعات وفق النظرية الجديدة التي يتبناها حالياً عدد كبير من العلماء البريطانيين هي ليست لعبا، بل "دراما" تتطور في سياقها معتقدات وقيم الأطراف المختلفة. والفكرة المحورية في النظرية الجديدة هي أن النزاعات العسكرية والصراعات السياسية والاقتصادية، ليست ألعاباً ثابتة أو صفقات مضبوطة وفق تصورات عقلانية، بل هي مواقف ديناميكية. ويلعب الغضب والخوف، أو عواطف الإعجاب والنية الطيبة التي تظهر خلال الصراع دوراً حاسماً في نتائجه، وقد تهز القناعات الأساسية للخصوم وتتيح لهم فرصة العثور على طريق جديد الى الأمام. ويعتقد العلماء أن نظرية اللعب الكلاسيكية لا تعالج سوى جانب واحد من قضية أكبر بكثير تتضمن التأثيرات غير العقلانية للعواطف. والدرس الرئيسي الذي يستنتج من نظرية الدراما، هو:عندما تعلم أنك خاسر لا محالة فالتصرف العقلاني الوحيد هو أن تصاب بالجنون تماماً وتغير قواعد اللعبة بالكامل. ويبحث العلماء حالياً عن استراتيجية الجنون وامكان التحكم به. وهذه معضلة صعبة قد تكون السبب وراء فقدان عالم الرياضيات جون ناش عقله.