بين اواسط تشرين الأول اكتوبر 1920 وأواسط العام 1923، كتب لوركا اكثر من رسالة الى أهله في مدينة غرناطة. الرسالة الأولى المرسلة من شارع "بينار"، حيث كان يسكن الشاعر، تتحدث عن متعة الشاب لشرائه "ماكينة حلاقة جيليت" بخمس بيزيتات ليقول "احلق ذقني كل الأيام لكي اواظب على كوني مقيماً صالحاً في بيت الطلاب". تلك العناية لم تكن اعتباطاً: "انا سعيد وكل مرة اصبح اكثر تصميماً للاستمرار في صياغة نفسي اكثر كإنسان بروح نقية، انسان روحاني، انسان بكل روحه. لا اعرف كيف سيبدو لكما هذا، لكني اقتنع كل يوم اكثر بأن الشيء الوحيد الذي يستحق البقاء في الحياة هو الشعر، الفن، والمعرفة". ان لب الموضوع هنا هو ان لوركا، بين ما هو مطروق وما هو روحي، يواجه "الجنس الادبي" بصعوبة، ففي الرسائل المعنونة للوالدين، تُستقصى كل الآمال الشخصية والمشاريع التي هي حطام: بعض جوارب ومعطف مطري، شراء بطاقات للقطار، كتاب رومانسيات ومخطوطة مختفية لمحاضرة. الحديث يشمل ايضاً طبعاً الصحة انا بصحة جيدة كما هي الحال دائماً... والنقود اذا امتلكت "رقية الفراشة" احد عناوين اعماله الأولى سأحصل وفق توقعات مارتينيز سييرا على كمية محترمة من البيزيتات. كل هذه الرسائل التي تُنشر للمرة الأولى من قبل جمعية لوركا بمناسبة مئويته لا تخلو من المبالغة والكذب "الفني"، مثلما تخلق بصعوبة "شخصية" شعرية للعائلة، ربما لم تكن بالصورة التي تخيلها الشاب لوركا آنذاك على رغم ان ظنه بنفسه ما خاب تباعاً. لكن هذه الشخصية تظهر معرضة نفسها للخطر في التصادم مع "نثر الحياة اليومي"، فهو "كان انتهى للتو من الواقعية الكريهة"، فلماذا الحديث عن "اشياء تافهة"؟ يسأل لوركا خائب الظن 1920: "كل الأيام افكر بالكتابة لأعمامه ولكن ليس هناك شيء مرعب مثل كتابة رسالة. انه امر جدي بالفعل! دائماً عندما يكتبون رسائل فهي بجزئها الكبير لا تتحدث الا عن الحماقات، لأن المرء لا يعرف ماذا يقول واضعين الى جانب الاحوال الصحية، الخلافات والمعاملات". وعليه ان يتحدث عن اشياء تافهة مثل "امس اكلت جيدا"، "هذه الليلة اذهب الى المسرح"... وفي رسالة اخرى يصرح بصورة قاطعة: "تفاصيل الحياة الشخصية تخلو من الأهمية". باستثناءات مختلفة، لا تكشف رسائل لوركا لوالديه عن درجة الأدبي فيها، اقصد لا تكشف عن الارادة التي تصر على الكتابة بشكل ادبي كما هي حال الرسائل التي يكتبها لأصدقائه الحميميين. لنتذكر الاسلوب الادبي في الرسائل المبعوثة الى دالي وبنيامين بالينسيا وفيرنانديز آمارغو وبيبين بييو وآخرين. هل يعني ذلك ان الكتابة للوالدين تنقصها السوابق الأدبية؟ في رسالة من العام 1925 يربط شعر "المبتدئ والساذج" بيبو مع "الرسالة التي وجهها الشاعر الكبير لامارتين الى امه". انه لأمر يثير الفضول انه لم يرسم في رسائله لأهله أية تخطيطات، كما كان يفعل في رسائل اصدقائه. ولماذا لم يضمنها ايضاً - كما في رسائل الاصدقاء - نصوصاً ادبية؟ الجواب يبدو متعلقاً بالجنس الادبي نفسه اكثر من علاقته بالاحداث البيوغرافية. لا يعني ذلك ان الوالدين لم يكن عندهما اي اهتمام بمعرفة عمل الشاعر ومتابعة مشروعه. دونيا بيثينته لوركا الأم لم تتوقف مرة عن تشجيعه بنشر وإرسال "اعماله". ربما يمكن شرح ذلك بطريقة اخرى. لا يهم درجة قوة او ضعف قدراته الادبية في تلك الأيام الشبابية، فان رسائل لوركا لأهله تلقي ضوءاً على مناطق بيوغرافية كانت معتمة بعض الشيء ومعروفة قليلاً. ليس هناك كاتب سيرة واحد استطاع التعمق في ما يخص علاقات الشاعر بالعائلة، وهي جزء مهم من مراسلاته: اكثر من مئة رسالة، بطاقات وبرقيات وأجوبة دونيا بيثينته لوركا. بين تلك الرسائل التي تنشر للمرة الأولى تبرز الرسائل التي كتبها الشاعر من الارجنتين 1933 - 1934، والرسائل التي املاها من نيويورك وكوبا والرسائل التي تصف رحلاته الطلابية مع دون مارتن دومينغيز بيرويتا، ورسائل عدة من العامين 1920 و1921 تسجل بدايات مسيرته الشعرية في مدريد. من هذه اللحظة السعيدة والواثقة تأتي رسالتان لا تحملان تاريخاً معيناً، ومع ذلك فان من السهولة معرفة انهما تؤرخان لفترة الاقامة الأولى في مدريد. من الواضح ان الشاعر يشعر بأن العاصمة هي بيئته: "يبدو لي انني من هنا، كل شيء ألتقي به طبيعي. لا يفاجئني شيء... رغم ان هذه الضوضاء تتطلب من المرء القوة والهمة". ثم يعلق في لحظة اخرى: "مدريد هي صالة استوديو لمن يريد الشغل. تتلاءم تماماً مع طبيعتي". بين القصائد الأكثر حداثة التي كان لوركا يحضرها السويتات Suites، التي كتبها الشاعر بين العام 1921 والعام 1923. المراسلة مع العائلة تطلعنا على تفاصيل ثمينة تخص هذه القصائد، منذ التفكير بها وحتى المحاولات الفاشلة لنشرها 1921 - 1931. ووفق رأي دارسي لوركا، فان الشاعر توصل في "سويت المرايا" الى اكتشاف جديد للقيمة الشعرية، وهو: الاقتضاب. هذه السويت، التي خضعت لتشذيب كثير، ستُنشر من قبل خوان رامون خيمينيز في مجلة "انديثة Indice". الاخرى ليلة Noche؟ ستُسلم الى الموسيقار ادولفو سالازار وزميله روبيرتو غيرهارد، "لكي يضعا لها الموسيقى". في الرسائل المؤرخة 1920 - 1921 تسجل ايضاً اللقاءات الأولى للشاعر مع المسرحيين والأدباء، ابتداء من غوميز دي لا سرنا مروراً بالممثلة ماركينا او مارتينيز سييرا، مشاريع مسرحية، مهرجانات ومؤتمرات عن الاغاني والغناء العميق El Canto Jondo في غرناطة، ونشاطات ثقافية في سكن الطلاب، حيث كلف لوركا مع خوان رامون بتنظيم زيارة طاغور. في هذه الرسائل التي كانت حتى اليوم صفحات منسية، تُنسج حياة وأدب، "اشياء تافهة"، ولقيات استيطيقية. بشكل ما لا تهم الظنون ولا النوايا الشكلية، او الرغبة المشروعة للعيش من خلال الكتابة او ان يكون هو ناشر نفسه. ففي اسبانيا لم يختلف وضع طباعة الكتاب ونشره آنذاك عن وضع الكتاب الذين يكتبون بالعربية - حتى اليوم - وما يخص ضياع حقوقهم وعيش الناشرين على عرق جبينهم! لا يهم ذلك، اذ مع السنين يتحول حتى المبتذل والمطروق الى شعر على يد المايسترو لوركا. نماذج من الرسائل مجمع مدريد، 1920 والداي العزيزان: ما زلت في مدريد الودودة مرتاحاً جداً وجد سعيد. كل شؤوني تتحقق بآلاف العجائب. ليس هناك اروع من اتمام عمل شيء بشكل جيد. ما له علاقة باستحالة التغلب على الصعوبات ليس له علاقة بي، انا احرز نجاحات حقيقية. هنا هو المكان الوحيد للشغل، وفوق كل شيء للفوز بصداقات عديدة. امس كنت مع خوان رامون خيمينيز صاحب "أنا وحماري" والحائز على جائزة نوبل للآداب. المترجم الذي اسعدته اشيائي، لدرجة انه رجاني ان اتركها لكي يقرأها لزوجته. انه رجل مصاب بالوهن العصبي الشديد ومسل جداً. قولوا لميغيل بيثارو ان هذا خوان رامون خيمينيز - المترجم نعم وقف معي وقفة محببة ومختلفة. استقبلني بروب اسود، في اريكة مشعة. دعاني بالحاح كبير لكي اذهب الى بيته ولكي نقرأ ونعزف على البيانو. لقد وددنا بعضنا. حدثني عن وباء الشعراء الشباب في مدريد. كل ما اقوله عن ماركينا، هو قليل. قبل ليلة الأمس قدمتني باطراء جميل لمارتينيز سييرا وكنا حتى وقت متأخر في الكاميرينو دي لا بارثيناس. انها ممثلة فاتنة. ماركينا تخرج كل الأيام معي مقدمة إياي بدفعات وعند كل الجهات. امس تعرفت على بيدرو دي ريبيدا وعلى زونبيغا الذي له اطول لسان عرفته في حياتي. في النهاية فان اموري تجري بصورة رائعة. سآتي في العام الذي سيلي، وإلا سأرمي نفسي من قبة الحمراء. انا منكب على العمل جداً. حتى الغد ودعوا ابنكم الذي يجلكم، فيديريكو. كنت اود لو كتبت اكثر من هذا، لكن هناك الكثير من الاشياء التي لا استطيع شرحها لكم. تحياتي الى كل ارائك المقهى الميدا المدهشة. لتدوموا طويلاً. سكن الطلاب، العام 1921 والداي العزيزان: في النهاية، وبسبب امور ديبلوماسية، حيث كان من المخطط ان يأتي رابيندراث طاغور لعمل دعاية مناهضة لبريطانيا، لم يأت الشاعر الكبير. لكن ما سيكون امراً مزعجاً للكثيرين، سيكون لي امراً مفرحاً لأن المسؤولية التي كانت على عاتقي انا هنا كانت كبيرة من اجل الاحتفال الذي نظمته. سيأتي في تشرين الأول، وسيكون كل شيء اكثر تنظيماً ومخططاً له بشكل اوسع. انا اشتغل كثيراً وفي أيام الآحاد مثل اليوم اتنزه في هذه الطبيعة البلازكيسية نسبة للرسام الاسباني بلازكيس - المترجم لما يطلقون عليه البرادو. الآن مع سندويتشتي في اليد ضمن عصبة من الاصدقاء: شاعر وموسيقي وناقد لكي يكتمل الامر، نتوجه الى الجبال التي لن نعود منها حتى مغيب الشمس... هكذا انا اصبحت اسود من الشمس مثل واحد من انغولا. كتبي في طور التنضيد. غداً سأكتب لكما متحدثاً عنها بتفصيل اكثر لأني قررت ان اكون ناشراً لكتبي نفسها، بعد ان اقنعني خوان رامون، ولأسباب اساسية. قررت ان اعطي حجماً كبيراً لمختارات من قصائد قديمة المستقبل كتاب من القصائد وبعدها مباشرة كتاب عملته هنا لأشياء جديدة استثنائية بأشكال سونتيتات اعتقد بأنها اكثر حبكة من كل ما انتجته. الكتاب الثاني له فائدة ان يكون الاكثر تقدماً مما عمل في الشعر ويعادل المختبر الأول لشاعر، ومن جانب آخر انه ممتع وبسيط. سأبعث غداً واحدة من هذه السويتات Suites لباكيتو فرانسيسكو غارسيا لوركا، اخ الشاعر - المترجم معنون من المرايا لكي يرى كيف ان ما قرأناه قبلاً لا يمكن ان يفوق، انما، يبدو كذباً، باختصار. اتضرع اليكما ان ترسلا 150 بيسيتاز العملة الاسبانية - المترجم، لأن حالي سيئة بما يخص الفلوس وقضيت زمناً طويلاً من دونها لكي لا تقولوا اني مبذر، وحدثت لي امور كثيرة بالمصادفة مثل عرض النقود من قبل ابانييز... وأنا، الذي لم يملك ولا حتى سنتاً واحداً، رفضته بسبب الكياسة. بالاضافة الى ذلك، دعوت دون فيرناندو للغداء في توليدو، وكان عليّ ان اذهب وأطلب منه نقوداً لصديق، ويزعجني انني لم أرجعها له مباشرة. غداً سأحدثكما. تحيات الى دون انتونيو سغورا. قبلات كثيرة لأخواني، تحياتي للعائلة ولكما قبلة من ابنكما، فيديريكو. دون فرناندو كان يتحدث عن باكيتو وأغرقه بمديح مفرط. بوينيس ايريس، 1933 والداي العزيزان واخواني: في اليوم الثالث من اقامتي في بوينيس ايريس استلمت رسالتكم، التي ملأتني بالسرور. افحمني عدد الهدايا والاهتمام الذي احصل عليه هنا. انا مرهق بعض الشيء، بسبب الكثير من الصحبة والشعبية. هنا، في هذه المدينة الكبيرة، اصبحت لي شهرة مصارع ثيران. منذ ليال حضرت حفلة افتتاح مسرحية. والجمهور، عندما رآني، صفق لي استحساناً وكان عليّ ان اعبر عن شكري من مقصورة المسرح. مرت لحظة سيئة، لأن هذه الاشياء غير متوقعة في حياتي. سترون الجرائد. منذ مونتيفيديو بدأت الضجة. كان هناك صحافيو بوينيس ايريس لكي يعملوا الريبورتاجات، ولا اعرف كم هو عدد الصور التي اخذوها. كانديو، الذي هو هناك السفير، وعائلة موراس صعدوا الى الباخرة لتحيتي، يتبعهم بعض الآنسات بالألبوم، والصحافيون. كل هذا كان نتيجة للنجاح غير المحدود الذي حصلت عليه "اعراس الدم" الاسم الاصلي للمسرحية هو Bodas de Sangre، الS هي للجمع وليس الكلمة المفردة Boda كما ترجمت عندنا بلا امانة "عرس الدم" - المترجم. هؤلاء الناس من اميركا يحبون الشاعر فوق كل شيء. لا يمكنكم تصور كيف استمعوا الي اليوم في محاضرة، كان امراً غير معقول! لا يمر يوم الا وأستلم تصريحات لآنسات افترض انهن مخبولات وشغوفات يقلن لي اشياء نبيلة، ستقرأونها! في الباخرة، بين مونتيفيديو وبوينيس ايريس، قتلوني بالمقابلات. وعند الوصول الى بوينيس ايريس كانت هناك غيمة من الناس عند المرسى، بينهم وزير كولومبيا وشعراء ومصورون. كنت مرعوباً. عند النزول من الباخرة صفقوا لي جميعاً. فجأة سمعت صوتاً يقول: فيديريكو! فيديريكو! آي! آي! وكانت امرأة كوكا وطفلتها، وماتيلدا امرأة ابن العم باستور، ومجموعة من فوينته باكيروس. ستقرأون الصحافة. عندما التقط المصورون الصور للمجموعة، بكوا وهم يقولون: "من بلدتي، انه من بلدتي! من فوينته!". اقول لكم ان الدموع قفزت من عينيّ. كانوا قد صرفوا خمس بيزتيات من اجل الدخول للمرسى وكانوا تابعوا وقطعوا كل الصور التي نشرت قبل وصولي. طبيعي ان هذا قابل للشرح في حالتهم، لأني قدمت الى هناك شخصياً وهم رأوا كيف عانقتهم وبأي فرح استقبلتهم. منذ ذلك الحين بدا كل العالم لطيفاً. ماذا قالت امك عني؟ سألتني امرأة كوكا، وأنا قلت لها انك تتذكرينها جيداً. بعد ذلك جاؤوا لرؤيتي في الفندق أنا في فندق كاستلار، في لا بينيدا دي مايو، احد فنادق بوينيس ايريس الكبيرة، ويحركون مشاعري كثيراً لأنهم يتكلمون عن بابا باحترام وحنان كبيرين. وعلى رغم كل هذا البعد بدت لي مثل حكاية عن الحب العظيم الذي يملكه المرء لبيته. يتذكرون كثيراً كونجيتا اخت الشاعر - المترجم، اثاروا هتافاً شكلياً لپ"فوينته" بصور "التيكا" التي امتلكتها فوق سريري. يوم 24 هو يوم اعادة لافتتاح عرض "اعراس الدم" في مسرح آبينيدا، تذاكر المسرح نافذة البيع لثلاثة أيام. هذا اليوم سيكون امراً كبيراً والحشد الذي سيحركه الاسبان. طبيعي اني رأيت استقبالاً مشابهاً، وكان ثميناً لكي تأخذوا ذلك بنظر الاعتبار. لولا ميمبريس، فوق كل شيء يقول الناس، مثلت دورها بشكل عظيم. السفير الذي رأى العمل خمس مرات او ست مرات، قال لي ان الامر تعلق بشيء عظيم. لولا انك ستظهر للمرة الأولى امام الجمهور في مدريد وهذا امر سيجعل المسرح ممتلئاً بالتأكيد في كل الليالي التي ترغب. انا بأحسن وضع وأرغب في ان تكونوا بالحال نفسها. اشعء بنفسي جيداً، وآمل ان اكسب نقوداً نظيفة لكي املك ما ارغب به في مدريد لاحقاً. اكتبوا لي وحدثوني عن اشياء كثيرة، وليكتب لي باكيتو. اقرأ عن اسبانيا اخباراً غير سارة. هذه الانتخابات تسير برعب. سنرى ما سيحدث! انا قلث بشكل حقيقي بسبب كل هذه الحركات السياسية. تحيات الى كل العائلة، قبلات لكونجيتا ومانولو واطفالي يقصد اطفال اخوانه - المترجم، ولكما قبلات فيديريكوكم. تقديم وترجمة: نجم وال