لا يشبه نزق العروبة فينا النزق الياباني والألماني إلا على السطح. هم يملكون اللغة الحاسمة، مع الدأب المضني والعقل النظري والعملي معاً. نحن لدينا الجمل القاطعة، والخمول الضجِر، والخيال السابح بعيداً، أيضاً معاً، ولكن في جزر مستقلة في المكان والزمان. حين استحالت دماؤنا الفوارة قبل حزيران صديدا بعد المذكور ونكسته "العابرة والموقتة"، قامت الغالبية منا - وعلى أشكال متناقضة الظاهر - بصبغ الأفق كله باللون الأحمر، أو أي لون فاقع آخر. وما بين منتصف السبعينات ومنتصف الثمانينات، لم تكن فكرة الانتحار غريبة عن المثقفين العرب - خليل حاوي، سعدالله ونوس، ... -. الآن لم يعد الانتحار مطروحاً. لذلك أصبح من الممكن ان يجرؤ المرء أمام ذاته والغير، فيقول: أنا يائس. وأصبح من الممكن ايضاً ان يسخر من الطروح المتفائلة، صادقة كانت أم غير ذلك. بعد الهزيمة المستمرة - وتلك استعارة مقصودة من "الثورة المستمرة" -، أصبح الانكباب على مكونات الظاهرة، وإعمال الفكر بها وبالسبب والنتيجة وتحديد المهام المقبلة تكتيكاً واستراتيجية عبئاً، ما لم ينتبه الى الحال والمآل. اعلان اليأس مريح اكثر، وباعث أفضل على حسن التفكير والتدبير، دون انشغال بالصراخات المقاطعة والمتقاطعة، اليأس في هذا الجيل من المسائل الكبرى الوحدة العربية، فلسطين، التقدم الصاعق، ... استبدلها بما هو "أصغر"، كالمعاصرة والحضارة والتنمية... والديموقراطية! التفاؤل بالصمود، والاحتماء بالثوابت، والتعويل على الاعمدة الشامخة، وتحاشي فتح الأعين أمام الرماد انتظاراً للعنقاء القادمة... حالياً: يعادل تفاؤل ابليس بالفردوس. وليس صحيحاً ان الرؤية تكون أوسع وأفضل من فوق الذُرى والقمم... بل ينبغي، وسامحونا على واحدة ان تلمس أقدامنا الأرض والقاع حتى يعمل العقل. يقول الكثيرون الآن أنهم متشائمون في المدى البعيد. ويخشى ان يساء الظن حتى بهذه الصيغة، بحيث تفتح ثغرة زائفة جديدة. ربما يكون من الأفضل ان يقال: "نحن يائسون، على تفاؤل - كمن يقول: على مضض -. من فضائل اليأس هذا الاشفاق على الآخرين. واحترام معاناتهم عند تدبيج البيانات وصوغ المواقف مسبقة الصنع، وليس المقصود الفلسطينيين وحدهم، بل الآخرين ايضاً. ومن فضائله سلوك الهُوَينى في التفكير، وطرقُ اللين من اللغة، مناطها ومآلها. ولا مانع من بعض الاكتئاب هنا، على ألا يتحول الى نقيق موجع. وهناك أيضاً تلك اللامبالاة وعدم الاستعجال، وهي من نوع التقية الحقة دون كذب ولا ادعاء، لا في السلب ولا في الإيجاب. وعموماً يُبقى اليأس حامله على الشواطئ الأولى، متشبثاً بما تيسر من "صغائر" الأمور: كشيء من الديموقراطية ومنحة من حقوق الانسان وما تيسر من حقوق المواطنة، أو بعض سيادة القانون على الأقل. أما في المسألة القومية، فيكفي باليأس والكآبة حاملاً لها في الحضيض، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. وكل حرص على هذه المسألة ممكن لأهله، ومرحب به حتى ما قبل حدود الضجر. أما التفاؤل، ففضائحه مجلجلة، حتى حتمية الانتصار وأبواق الهجوم وبشائر النهوض الثالث لا زالت - على الورق - ترعد وتبرق يومياً. والفضيحة لا تعني أبداً التشكيك بصدق المشاعر في الحشا، ولكنا في أواخر الطريق الى الجحيم، وان لنا ان نضع النوايا الطيبة جانباً... حين نريد ان نعقلها. ربما لم يكن هذا اليأس يأساً، ولكن، من المستحسن ان نسميه هكذا. * كاتب سوري