ليس محملاً للجدل أن "معاناة الشعب العراقي" هي أحد أهم الأسباب التي جعلت من انهاء العقوبات المفروضة على العراق مطلباً يلح عليه الرأي العام العربي، ان لم تكن أهم هذه الأسباب. ومن هنا تستحق تلك المعاناة فهماً أفضل من الفهم الشائع الذي يربط بينها وبين العقوبات ربطاً حصرياً، أي ربطاً يجعل منها سبباً وحيداً لتلك المعاناة. ووجه استحقاق ذلك الفهم الأفضل ان العقوبات سترفع ذات يوم، يتمنى كل من يريد خير شعب العراق أن يكون قريباً، اليوم قبل الغد. لكن انهاء العقوبات لن يعفي هذا الشعب من المعاناة، لأسباب عديدة، منها ما يتصل بالمعنويات، وأخطرها ما لا علاقة له بها. ولعل ما يزيد المعاناة الناتجة عن العقوبات مرارة، انها فرضت لتحقق أهدافاً لا صلة لها بالشعب العراقي، لا سعادته ولا شقاءه. ففرض العقوبات كما هو معلن هو "تجريد العراق من القدرة على تهديد جيرانه". و"الجيران" المقصودون هم المصلحة الغربية في استمرار تدفق نفط الخليج الى أسواق الغرب. وهيمنة اسرائيل على المنطقة. أي ان الشعب العراقي يعاني من عقوبات هدفها تحقيق مصالح ليست من مصالحه وحماية هيمنة دولة تناصبه العداء. والأنكى في شأن آثار العقوبات على الشعب العراقي، ان بعض أعبائها سيبقى يثقل كاهله لزمن طويل: فوق عبء اعادة بناء البلاد وإعمارها، هناك عبء التعويضات المترتبة على غزو الكويت، الى آثار تدهور الصحة وتراجع مستوى التعليم، وما يترتب على ضعف الاتصال بما يجري في العالم، وغير هذا كثير. اما المعاناة التي ليست لها صلة بالعقوبات، وهي الأخطر، فقد يلخصها من دون ان يوفيها حقها من الوضوح، القول بأن معاناة الشعب العراقي سابقة على العقوبات، ومرشحة، ولا يتمنى هذا أحد، لأن تستمر بعد الغائها. فهذا الشعب يعيش في حال حرب منذ 1980، بل من قبل هذا بكثير. فلم يكد العراقيون يلتقطون أنفاسهم بعد وقف اطلاق النار مع ايران في 1988 اذا كان التقاط الأنفاس ممكناً في ظل حكم من نوع ما هو قائم في العراق حتى زج به الحكم الى غزو الكويت، وما أدى اليه، ومنه هذه العقوبات. بل انه قبل الحرب مع ايران، كانت الحرب ناشبة في شمال العراق، ولم تكد تتوقف باتفاق الحكم الذاتي لكردستان العراق في 1970، حتى استؤنفت بسبب انقضاض الحكم على ذلك الاتفاق، الذي اعتبر حين توقيعه من أهم منجزاته، واستمرت الحرب تتصاعد خصوصاً بعد "اتفاق الجزائر" بين العراقوايران في 1975، الذي وضع حداً للمساعدات العسكرية الايرانية للأكراد، مقابل اقرار العراق بمطالب ايران في شط العرب، وقد بلغ التصاعد في تلك الحرب حد استخدام الحكم الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في 1988. وفي غضون تلك السنين - النصف الثاني من السبعينات، فتح الحكم جبهة أخرى للحرب، اذ انقض على حلفائه في الداخل يطاردهم بالقمع والتصفيات والاغتيالات. ومن ينظر في تلك الحروب المتوالية أو المتصلة والمتداخلة، سيجد انها ليست فقط حروباً بلا ضرورة، وانما هي حروب من دون مبرر، وبلا نصر. ربما باستثناء الحرب ضد من كانوا حلفاء النظام في الداخل، كانت ضرورتها هي شهوة الانفراد بالسلطة، ومبررها هو مغانم الحكم، وحصيلتها نصراً على شعب العراق. أما الحرب ضد الأكراد، فقد كان احترام اتفاقية 1975 كفيلاً، ليس فقط بوضع خاتمة نهائية للمشكلة الكردية في العراق، وانما أيضاً بتحقيق قدر كبير جداً من الاستقرار الداخلي، واغلاق بالوعة استنزفت الكثير الثمين من ثروة العراق وطاقات أبناء شعبيه العربي والكردي، كما كان كفيلاً بحرمان جارتي العراق وشريكتيه في المشكلة الكردية من ورقة ضغط يصل الى حد العبث بالسيادة، لم تتردد أي من العراقوايران وتركيا في استخدامها ضد بعضها بعضاً كلما قامت الدواعي أو سنحت الظروف. كذلك، لا في الماضي ولا في الحاضر، كانت هناك أسباب للعداء بين ايرانوالعراق. وعندما نشبت الحرب في 1980 لم يكن بين البلدين الجارين من الخلافات ما يستدعي حرباً. كان هناك ذلك التوتر الذي يصيب علاقات الدول المتجاورة، خصوصاً عندما تكون الحدود بينهما هي أيضاً تخوم التلاقي والتمايز بين حضارات، كما هي حال ايرانوالعراق. لكن هذا النوع من التوتر لا يقوم سبباً للحرب. ويتبدى عدم وجود أسباب للحرب بين هذين البلدين واضحاً في لغة التعبئة العراقية لها، فهي حرب ضد "الفرس". وهي حرب ضد "المجوس". وهي "قادسية صدام". أي لا مشاكل ولا مسائل، انما هي أوهام ايديولوجية مستخرجة من فهم مشوه للتاريخ. اما دوافع "بطل" تلك الحرب لخوضها، فما تقوم عليه الشواهد، هو أنه تصور انه يقدم بها خدمة للولايات المتحدة الأميركية، ان يضرب نيابة عنها ولحسابها، الثورة الايرانية التي كرهتها واشنطن وناصبتها العداء، كي يثبت للأميركيين انه مؤهل لأن يكون شرطياً لهم في تلك المنطقة، بعد أن سقط الشرطي السابق، محمد رضا بهلوي. وقد أخذت واشنطن من تلك الحرب ما أرادت، انشغل طرفاها ببعضهما تدميراً وتقتيلاً، وارهقا اقتصاديهما بالاستنزاف الذي استنفد الاحتياطيات وراكم الديون. بل لحق الارهاق بخزائن أصدقاء العراق، وهو وضع يلائم واشنطن. بعد الحرب، لم يجد بطلها من واشنطن سوى التجاهل المبطن بالعداء. اذ استخرجت له من ملفاتها قصة "المدفع العملاق" القادر على حمل رؤوس حربية غير تقليدية الى أهداف بعيدة. وعلى أساس هذه القصة بدأ فرض القيود على واردات العراق بحظر بيعه "التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج"، وبدأ تفتيش السفن والشاحنات المتجهة اليه في عرض البحر وعلى ظهر الطريق. وهناك ايضاً ما يدعو الى الاشتباه في أن استبدال واشنطن التي كان الحكم العراقي يتوقعها بتلك الاجراءات العدائية كان من دوافع قراره غزو الكويت. إذ يبدو أن الحكم العراقي ساوره اعتقاد بأن في وسعه أن يلوي الذراع التي حبست ما كان يتوقع من مكافأة على ضرب ايران، أن يتخذ من الكويت رهينة تجبر واشنطن على الاعتراف له بدور لحسابها في منطقة الخليج. هذه صورة عامة جداً للمجرى الأليم لمعاناة الشعب العراقي على مدى عمر هذا الحكم. وهي صورة يجدر بمن تشغل قلوبهم "معاناة الشعب العراقي" ان يتأملوها ويستوعبوها، لئلا يصور ان تلك المعاناة ستنتهي بانتهاء العقوبات، ولكي يوجهوا عقولهم نحو مساعدة الشعب العراقي على انهاء حقيقي وكامل لهذا المجرى الأليم من المعاناة، وحتى يمكنهم ان يفعلوا ما بوسعهم لئلا يبقى الشعب العراقي امام الاختيار الكئيب: بين بقاء الحكم القائم وحكم تقيمه عليه أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية. * كاتب مصري