كان البحر الابيض المتوسط دائماً مفترق طرق لحضارات وشعوب وديانات. انه المكان الذي تكمن فيه جذور الثقافات الاوروبية والعربية والاسلامية. كما انه منطقة تفاعل يمتد عبر القرون ويُبرز عناصر التعاون والإثراء المتبادل. هكذا، لعب البحر الابيض المتوسط دائماً دوراً مهماً في تاريخ اوروبا. يصح الامر نفسه في ما يتعلق بالأمن. وندرك اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ان الامن في اوروبا يبقى مرتبطاً على نحو وثيق بالامن والاستقرار في منطقة المتوسط. وندرك اكثر فأكثر أن أي محاولة للانعزال والانغلاق على الذات في عصر الاستقلال والعولمة محكوم عليها بالفشل. لكن القاء نظرة فاحصة على منطقة المتوسط يعني أيضاً الاعتراف بأنها تواجه حالياً وفرة من المشاكل والتحديات. ويمكن الاشارة الى الفوارق الاجتماعية - الاقتصادية والهجرة وانتشار الاسلحة من ضمن الامثلة التي يُلفت اليها أكثر الاحيان. وهناك، ضمن هذا المستوى من التنوع والتحديات، علاقة متبادلة واضحة على الصعيد الامني بين بلدان المنطقة تنبع بشكل اساسي من تزايد الاتكال المتبادل بينها. وتلمح هذه العلاقة المتبادلة الى الحاجة الى موقف من الامن يقوم على التعاون. وهناك حالياً ما لا يقل عن ست مبادرات ديبلوماسية تهدف الى التعاون في منطقة المتوسط. ومن ضمنها "عملية برشلونة" للاتحاد الاوروبي ومبادرات المتوسط التي اطلقتها منظمة الامن والتعاون الاوروبي واتحاد اوروبا الغربية وحلف الاطسي. ويشير هذا العدد في حد ذاته الى ان التعاون في المنطقة يقدم فرصاً جديدة لم يكن في الامكان تصورها قبل بضع سنوات فحسب. من المنطقي تماماً ان يكون الاتحاد الاوروبي هو المبادر الى إشاعة علاقات التعاون عبر البحر الابيض المتوسط. فهو يقدم ما تحتاج اليه بصورة ملّحة منطقة المتوسط: التقدم الاجتماعي - الاقتصادي. ومع ذلك، من الواضح في الوقت نفسه ان الاتحاد الاوروبي لا يستطيع بمفرده ان يتعامل مع سعة وتنوع التحديات التي تواجه المنطقة. من المنطقي اذاً ان يقتضي تطور المتوسط كمنطقة مستقرة ومزدهرة إشراك لاعبين آخرين. وحلف الاطلسي هو احد هؤلاء اللاعبين. ويمثل "حوار المتوسط" الذي يجريه الحلف مع ستة بلدان اخرى في المنطقة لا تنتمي الى المتوسط مصر واسرائيل والاردن وموريتانيا والمغرب وتونس جزءاً من هذا الاطار الواسع للتعاون المؤسساتي. ويوضح مدى وطبيعة "حوار المتوسط"، الذي اُطلق في كانون الاول ديسمبر 1994، ان حلف الاطلسي يعتبر دوره مكملاً لدور منظمات اخرى، ابرزها الاتحاد الاوروبي. كما يأخذ هذا الحوار في الاعتبار الطبيعة التعددية لهذ المنطقة. وهو لا يزعم ان الحلول ذاتها يمكن ان تُطبّق بالجملة على المنطقة كلها. فمع وجود 22 دولة تحاذي البحر الابيض المتوسط وبضع دول اخرى ذات صلة بديناميته المعقدة، سيكون مضللاً بالفعل ان يجري التعامل مع منطقة المتوسط ككيان واحد. وبالفعل، اذا اردنا ان نحقق استقراراً بعيد المدى في ارجاء منطقة المتوسط يجب ان نقاوم الميل الى التعميم. فحالما نفقد القدرة على التمييز، نفقد قدرتنا على التأثير بشكل ايجابي في التطورات في المنطقة. وتستحق منطقة المتوسط ان تولى الاهتمام كمنطقة ذات وضع فريد. اعتقد ان حلف الاطلسي استخلص الاستنتاجات الصائبة من هذه الحقائق. فقد تبنى موقفاً مختلفاً تجاه امن المتوسط، وهو موقف سياسي اولاً وقبل كل شيء. فعبر اقامة حوار وتبادل منتظم للمعلومات، يهدف الحلف الى تبديد اي سوء فهم محتمل ازاء انشطته. ونريد بشكل خاص ان نبدّد مخاوف من ان البنية الناشئة للامن الاوروبي تقوم على العزل بدلاً من التعاون وتوسيع نطاقه. لكن تبديد عدم الثقة ليس الهدف الوحيد ل "الحوار". فنحن نسعى أيضاً عبر "الحوار" الى تحقيق فهمٍ افضل لبعض الهموم والمناظير الامنية لجيراننا في الجنوب. هكذا، يمثل "الحوار" عملية متبادلة. وضمن الاهداف الاخرى ل "حوار المتوسط" هدف اكثر عملية. فنحن نحدد مع جيراننا الجنوبيين مجالات - مثل المعلومات والعلوم والتخطيط لحالات الطوارىء المدنية وانشطة اخرى ذات صلة بالمجال العسكري - يمكن ان نبني فيها الثقة في علاقاتنا. مع ذلك، لايزال هناك الكثير مما يتعيّن انجازه. دعوني اشير الى مجالين فحسب اتوقع ان يتجه اليهما الحوار. المجال الاول هو المزيد من التمييز. علينا ان نمكّن بلدان المتوسط من صوغ هذا "الحوار" وفقاً لاحتياجاتها الخاصة. يجب ان نقدم لكل بلد يشارك في الحوار فرصاً اخرى ليعبّر عن همومه المحددة. المجال الثاني الذي يمكن ان نتقصاه بشمولية اكبر هو تطوير تعاون ذي صلة بالشؤون العسكرية، خصوصاً في مجال الشفافية والانفتاح. فاجراء حوار لمجرد لحوار لن يكون مجدياً. والسمة الاساسية لحلف الاطلسي هي الجدارة العسكرية. هكذا، يمكن للحلف ان يدرس امكان ان يعرض على بلدان "الحوار" المشاركة في انشطة معينة ذات صلة بالشؤون العسكرية، ومن شأن ذلك ان يساهم في بناء الثقة. بالاضافة الى ذلك، سنسعى الى مشاركة متزايدة لبلدان "الحوار" في التعاون القائم بيننا في انشطة دعم السلام. ويتمتع الحلف فعلاً في هذه المجالات بتفوق نسبي واضح، وهو ما سيؤكد بدرجة اكبر الطبيعة المكمّلة لمبادرات المتوسط المتنوعة، بما فيها "عملية برشلونة" التابعة للاتحاد الاوروبي. الزمن وحده كفيل باعطاء اجابة عما اذا كان "حوار المتوسط" الذي يجريه حلف الاطلسي سيتطور في الاتجاه المشار اليه اعلاه. وفي أي حال، ادخل انتهاء الحرب الباردة إحساساً جديداً بالدينامية الى منطقة المتوسط. فهناك الآن مقدار اكبر بكثير من المرونة، وهو وضع اكثر موائمة بكثير لممارسة تأثير ايجابي على المنطقة. ان حلف الاطلسي الجديد، بالتوافق مع مؤسسات رئيسية اخرى، ابرزها الاتحاد الاوروبي، مؤهل اكثر من أي وقت مضى لتشجيع الاستقرار. * الامين العام لحلف الاطلسي والمقال خصص ل "الحياة" بمناسبة انطلاق المبادرة الاطلسية باتجاه دول المتوسط.