احسب ان لم يمر على العالم أمة اختلفت كهذه الامة، واستعملت السيف أداة للجدل كهذه الامة. في تاريخنا المكتوب منذ نحو ألف وخمسمئة عام - والشك مشروع في قدم المسألة اكثر من ذلك - ما زلنا نختلف حول تفاصيل، كأنها حدثت البارحة. وفي هذا العصر، الذي كاد يعصرنا، نمارس العادات ذاتها في ابواب القول كلها، وخصوصاً في باب الثقافة، واكثر منه في باب السياسة. وعلى الرغم من اننا نفتقد الرأي كثيراً، الا اننا عندما نراه نرى ان الهوى غلاب. فالحال انه كمصير الطبقة الوسطى فوق معظم الارض العربية، انزلاقاً الى اسفل في غالبيتها، وبعض شواذ الى اعلى، كانت حالة الرأي. حيث ازداد امتناع اهله عن ابدانه، في الوقت الذي تناقص به عددهم، ليتحولوا الى جموع من الذاهلين والراكضين في حركة عشوائية ولاهثة شتى الاتجاهات. ولا يمنع هذا الحال "المائل" رؤية مشهد نقيض يتعمق ويتنامى رغم بؤس مفعوله وضعف انتشاره، مشهد بعض اهل الرأي وهم يحاولون اجتهاداً افضل من السابق واعمق. ولكن الامر اشتبك واختلط ما بين الثقافة والسياسة، وخضع لمؤثرات من الارث وفعل الانظمة ومفعول العولمة ورذاذها، الذي قد يحجب الرؤية في سمائنا وأمام اعيننا. فصار الرأي العربي الى فصام وانفصام، وتحول الى سلسلة من المزدوجات تتوالد باستمرار وتنجب توائم سيامية ومنغولية في الوقت نفسه. حدث هذا عندما قامت معركة الغزو الثقافي الامبريالي، وما كانت بمعركة اذ اختبأ اصحاب الرأي الآخر في جامعاتهم او مهاجرهم، الا اقلهم، وانعقدت المؤتمرات لصد هذا الغزو ودحره. وحدث ايضاً - ويحدث حول التطبيع ومشتقاته، بحيث يريد البعض استباق الزمن والدخول بالعرض على مسار التسوية المعقد، ويريد البعض الآخر - كما اعتاد طويلاً - حبس الهواء ومنع معرفة الخصم والصراع معه في مواقعه. وحول التنمية مستقلة او متمحورة على ذاتها، والمسألة الفلسطينية تحريراً ثم دولة مستقلة ام ثنائية القومية، ومسارات التسوية سراباً ام واقعاً لا بد منه مع اختلاف على درجات الانغماس او التملص، وغير ذلك اشياء كثيرة بعدد المآزق. ترى، هل يرجع ذلك الى ارثنا الشفوي المستمر فينا؟ ام الى الانقسام الصوفي ما بين احتراق في الواقع وافتراق عنه، دون ملامسته ومعالجته ومواجهته؟! ولا تصل المسألة الى حدود المأساة الا عندما نراها ما بين الانظمة ونقيضها، الموالاة والمعارضة - ثقافة وسياسة. فعلى الرغم من ان رقعة الاتفاق - حتى ولو كان اجبارياً على المسائل الاساسية، تصبح ملموسة اكثر فأكثر، الا انه بالشد والجذب ما بين الطرفين - وعلى قدر الهوى - تضيق هذه الرقعة حتى حدودها الدنيا دائماً. عندما يأتي اوان الجد. والمشكلة ان الوقت لا يرحم. فزحف اشواك العولمة من ناحية، وتزايد الهوة الحضارية ما بين جنوبنا وشمالهم من ناحية اخرى، يجعلان الخطر داهماً والثمن الذي سنؤديه اكبر فأكبر. وللحق، فان الجالس في مطارح الهيمنة هو الطرف المسؤول بشكل رئيس. ومن المطالب بالانفتاح قبل فوات الاوان. وفي حين تثير بعض المواقف المعارضة، وهي تلوب بحثاً عن مخرج، فتعرض - مثلاً - عرضاً للديموقراطية يؤجل تداول السلطة، الامر الذي يثير حنق الآخرين، ترى في المقابل تشبثاً اشد والتفافاً على الموضوع، بل وسلوكاً في عكس الاتجاه. ويكاد هذا الامر ان يبعث غيفارا من قبره، ويرسله الى الجبال من جديد، لو لم يفت اوانه وزمانه، بحيث لا ينتج الحال الا ثواراً والتخلف و"التدين" اليائس القاتل. اصبح الحوار الجدي المسؤول مسألة حياة او موت للشعوب في بعض المجالات، ومسألة فوات او تقدم في بقيتها. الحوار وليس الثرثرة. فالسادة في كرتنا الارضية يركبون الجياد حتى تهرم، ثم يقتلونها. والسادة لدينا يركبونها ايضاً حتى تهرم.. ثم يأكلونها. * كاتب سوري.