ترتبط عمليتي الادخار والاستثمار اللازمتين لتحقيق النمو الاقتصادي بوجود نظام مالي ومصرفي يتمتع بالكفاءة. ومن متطلباته القدرة على تقديم القروض والفوائد والخدمات بالشكل الذي يواكب مسيرة ومتطلبات التنمية الاقتصادية. وينبغي له أن يتمتع بثقة أصحاب المصالح المختلفة. ويشكل نظام كهذا المكان الأكثر أماناً لرؤوس الأموال المدخرة والأكثر ضماناً لتوظيفها. ومن دون ذلك فإن هذه الأموال ستجد طريقها الى خارج البلاد أو تتحول الى المضاربات. المصارف في سورية منذ حدوث التأميم الذي شمل قطاع المصارف برمته خلال الثلثين الأولين من الستينات لا يسمح سوى بنشاط المصارف التي تملكها الدولة. وأدى احتكارالدولة للمصارف واشرافها المباشر على أنشطتها في ذلك الحين الى الغاء المنافسة في هذا القطاع الحيوي كماً ونوعاً. كما ساهم في فقدان الأمان به لدى المدخرين والمستثمرين ودفعهم الى تهريب رؤوس أموالهم خارج البلد. وعلى إثر ذلك انتقل الكثيرون منهم للعمل خارج سورية ولا سيما في لبنان. وبموجب التأميم المذكور أجريت هيكلة جديدة للنظام المصرفي في سورية. وانطوت على انشاء مصارف متخصصة الى جانب مصرف سورية المركزي الذي فقد استقلاليته على صعيد رسم السياسة النقدية لصالح وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية. ويدخل في عداد هذه المصارف "المصرف التجاري السوري"، "المصرف الزراعي التعاوني"، "المصرف الصناعي"، "مصرف التسليف الشعبي" و"المصرف العقاري". وهناك مؤسستان ماليتان هما "المؤسسة السورية للتأمين" و"صندوق توفير البريد". وجاءت هذه الهيكلة لتنسجم مع نموذج التنمية السوري الذي اعتمد آنذاك على التخطيط الحكومي المركزي. وعلى الرغم من التطور الاقتصادي الذي شهدته البلاد منذ أواسط الثمانينات في اتجاه ارساء دعائم اقتصاد السوق فإنه لم تدخل تغيرات بنيوية جوهرية على النظام المالي السوري حتى كتابة هذه السطور. وانحصرت هذه التغيرات تقريباً بالتوسع الأفقي للنشاط المصرفي من خلال افتتاح فروع جديدة للمصارف القائمة وادخال بعض التحسينات على أساليب ووسائل العمل المستخدمة. وتدل التجربة السورية ان الهيكلة الجديدة للنظام المالي والمصرفي لم تترك على عكس ما أريد منه آثاراً ايجابية مهمة على صعيد حجم وتوزيع الخدمات المصرفية بحسب الأنشطة الاقتصادية. فالحجم المذكور لا يزال ضعيفاً نظراً لضعف الامكانات المالية قياساً الى احتياجات الاقتراض. وقدر الخبير محمد أيمن الميداني الفجوة القائمة بين حجم التسليف الفعلي في سورية والحاجة الى هذا التسليف ب 40 بليون ليرة سورية في أوائل التسعينات. وتدل المعطيات الحالية على أن هذه الفجوة الى اتساع. ومن أسباب ضعف الامكانات المذكورة كون معدلات الفائدة لا تشجع على إيداع المدخرات في المصارف لأنها سلبية أو أقل من معدلات التضخم. وبدلاً من ذلك يتم تحويل القسم الأكبر من هذه المدخرات الى العقارات والمضاربات والقيم الثمينة من ذهب وتحف وغيرها وتدل المعطيات الى أن نسبة الودائع المصرفية في سورية الى الدخل القومي تقل بكثير عن مثيلاتها في معظم الدول العربية الأخرى. وعلى صعيد توزيع الخدمات المصرفية فإن القطاع التجاري ما يزال كما كان الوضع عليه في فترة ما قبل التأميم يتلقى ما لا يقل عن ثلثي القروض. أما نصيب القروض الصناعية فقد تراجع الى 2 في المئة في الفترة الماضية. ولا يتجاوز نصيب القروض الزراعية 10 في المئة. وعلى صعيد توزيع القروض حسب أنواع الملكية تظهر المعطيات ان القطاع الخاص لا يحصل إلا على ما بين 30 و36 في المئة من القروض مع أنه يملك أكثر من نصف الودائع المصرفية. وهناك مشكلة أخرى تتعلق بطبيعة القروض المقدمة. فأكثر من ثلثيها قروض قصيرة الأجل لا تناسب اقامة أو توسيع الاستثمارات الصناعية واستثمارات البنية التحتية الطويلة الأجل. الخدمات المصرفية تفتقر المصارف السورية الى الخدمات الحديثة مقارنة بتلك التي تقدمها البنوك العربية والدولية. فهي لا تستطيع أن تقدم الخدمة للزبائن بالسرعة المطلوبة، ولا تصدر بطاقات ائتمان Credit Card. كما أنها لا تستطيع تقديم خدمات الصرّاف الآلي. ناهيك عن الاجراءات الروتينية المعقدة وعدم كفاية الموظفين وادارتهم، وعدم معرفتهم بالتطور الحاصل في الأسواق المالية والمصرفية. ويضاف الى ذلك انعدام الحوافز لدى الموظفين لتقديم خدمات جيدة نظراً لتدني الرواتب ولغياب التقييم الموضوعي. ولا بد من الاشارة الى أن الكومبيوتر لم يتم ادخاله حتى الآن على نطاق واسع في الخدمة المصرفية. يستنتج مما سبق أن القطاع المصرفي في سورية لا يعاني فقط من قصور التسليف المصرفي كبر الفجوة القائمة بين حجم التسليف الفعلي والحاجة الى هذا التسليف وانما أيضاً من تخلف كبير على صعيد الخدمات المصرفية. ويزيد هذا الوضع من ضرورة تحديث القطاع بهدف توفير التمويل الكافي للمستثمرين في مختلف القطاعات. كما يزيد من أهمية ذلك كون عملية الاصلاح الاقتصادي في القطاعات الأخرى قطعت خطوات مهمة لا سيما بعد صدور قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991. وتدل خبرات السنوات القليلة الماضية أن هذا القانون لن يحقق النتائج المرجوة منه في ظل غياب قطاع مصرفي ضعيف الفعالية. ولا يمكن جعل الاقتصاد السوري أكثر كفاءة إلا في اطار القيام باصلاحات عميقة تتناول النظامين المصرفي والنقدي وتنطوي على انشاء سوق مالية انشاء بورصة للأوراق المالية وغيرها. والمطلوب في المدى القريب: أولاً: زيادة كفاءة وأداء المصارف القائمة من خلال تحويلها الى بنوك تجارية تقدم القروض على أسس تنافسية. ويكمن الهدف من وراء ذلك اتاحة المجال للمستثمرين للمفاضلة بين شروط الاقراض والايداع والخدمات المصرفية. كما يكمن في وضع هذه المصارف تحت ضغط المنافسة لتحفيزها على تطوير خدماتها لجهة اقتناء التجهيزات الحديثة كومبيوتر، صراف آلي... الخ ولجهة الاهتمام بالزبائن وجذب أكبر عدد ممكن منهم للتعامل معها. وبهذا الخصوص لا ينبغي اغلاق الباب أمام امكان اشراك القطاع الخاص في ملكيتها ضمن حدود مدروسة ومحددة. ثانياً: السماح بتأسيس قطاع مصرفي خاص واخر مشترك بهدف تنويع أدوات السوق النقدية لتلائم حاجات السوق من القروض والخدمات المصرفية الأخرى. ثالثاً: إعادة الاستقلالية لمصرف سورية المركزي واعطائه الصلاحيات اللازمة لوضع سياسة نقدية تلائم متطلبات نمو مستقر ومتوازن وتخويله بالاشراف على القطاع المصرفي من خلال الضوابط والشروط الدولية المعروفة على صعيد أسعار الفائدة ونسب الاحتياط وغيرها. رابعاً: الحفاظ على أسعار فائدة ايجابية أو أعلى من معدلات التضخم بغية تحفيز المدخرين على إيداع مدخراتهم لدى المصارف والبنوك بدلاً من توجيهها نحو المضاربات واقتناء القيم الثمينة وغيرها.