تشعر الولاياتالمتحدة وكأن النجاح الذي حققته عندما تمكنت عقب مفاوضات مضنية استمرت اياماً تسعة، من جر الفلسطينيين والاسرائيليين الى التوقيع على اتفاقية واي بلانتيشن، لا يحظى بالتقدير وبالحماسة اللذين يستحقهما في نظرها. لذلك نرى بعض مسؤولي الادارة الاميركية، سواء في ذلك وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت أو مساعدها لشؤون الشرق الأوسط مارتن أنديك، يعبران عن ضيق وعن تبرم مرير بما تبديه الدول العربية من قلة الحماسة تجاه الاتفاقية المذكورة، أو من تشكيك بها أو بحظوظها في النجاح. وهكذا، توالت التصريحات الاميركية خلال الاسبوع الماضي، على لسان المسؤولين الاميركيين المذكورين أو سواهما، داعية الدول العربية الى مساندة مذكرة واي بلانتيشن، والى استئناف التطبيع مع اسرائيل، بالنسبة الى من علّقه، أو الإقبال عليه، بالنسبة الى من لم يفعل. أو على الأقل الامتناع عن انتقاد الاتفاقية المذكورة وعن مواجهتها بالتشكيك. والحقيقة انه اذا ما كان هذا الموقف الاميركي الناقد، أو اللائم مفهوماً، حيث تعتبر واشنطن ان توصلها الى تلك الاتفاقية لم يكن بالأمر الهين خصوصاً مع حليفها الاسرائيلي وأنها قد بذلت في ذلك جهوداً لا بد من ان تقابل بالاعتراف. وان الجهود تلك انما أفضت الى ما ليس أقل من اعادة احياء عملية السلام، على الأقل في شقها الاسرائيلي - الفلسطيني بعد تعثر استمر نحو السنتين. وكاد ان يجهز عليها، إلا ان ذلك لا يجب ان يدفعها الإدارة الاميركية الى الاستهانة بذلك التحفظ العربي ودوافعه، خصوصاً وان مثل ذلك التحفظ لم يتأت فقط من أطراف يمكن وصفها بالتطرف، بل صدر عن بعض بلدان أساسية ومسؤولة، يتعذر وضعها في خانة العداء للولايات المتحدة وللغرب. ونعني مصر، تلك لم تتردد، خلال الآونة الأخيرة، في إخراج خلافها مع واشنطن، حول هذه المسألة الى العلن، كما دل نشر الرسالة التي وجهها وزير خارجية مصر، عمرو موسى، الى نظيرته الاميركية، ورفض فيها تلك الانتقادات الاميركية بلهجة لا تخلو من حدة. فوراء مظاهر التحفظ العربي تلك، سواء صدرت عن مصر أو عن سواها من بلدان المنطقة، عوامل عديدة، ربما تعين على واشنطن ان تتنبه اليها وأن تأخذها في الاعتبار... وأول هذه العوامل انه لم يحدث لمفاوضات اسرائيلية - فلسطينية بحجم وبأهمية تلك التي جرت في واي بلانتيشن، وكمفاوضات لا تتعلق بمجرد نقاط أو جوانب تفصيلية أو اجرائية من المسار التسووي، ان اتسمت بقدر من التغطية العربية على هذه الدرجة من الضيق والتقلص، حيث لا يبدو أنها حظيت بالمباركة الا من قبل العاهل الأردني الملك حسين، ذلك الذي كان في صدد الاستشفاء في الولاياتالمتحدة، وهب لنجدة المفاوضات عندما بلغت شأواً من التأزم عالياً، كاد يفضي بها الى الانقطاع. ومن هنا، فإنه ليس من المستغرب ان يصدر تحفظ كثير أو قليل، عن دول عربية اعتادت ان يكون لها دور محفوظ في مثل لحظات القرار الكبرى هذه من ناحية، واعتادت من ناحية اخرى على احلال المسألة الفلسطينية موقعاً مركزياً في سياستها على الصعيدين الاقليمي والدولي، خصوصاً وان المنطقة ما عادت مقبلة بالضرورة، على وعود السلام، على ما كان عليه مناخها ومناخ العالم في أعقاب الحرب الباردة، بل باتت تنذر بنشوء الأحلاف والمحاور العسكرية. مث ان هناك مشكلة نتانياهو وسمعته في صدد التقيد بتعهداته، حيث دلت التجربة بأنه ليس بالرجل الذي يحترم توقيعاً، وانه كثيراً ما التزم حينما لا يجد من ذلك بدا، ليرتد بعد ذلك على التزامه من خلال الامتناع عن التنفيذ، أو التعلل بهذه الذريعة أو تلك تهرباً وازوراراً. وقد جاء في سلوك رئيس الوزراء الاسرائيلي، عقب التوقيع على اتفاقية وادي بلانتيشن، ما من شأنه ان يؤكد مثل تلك المخاوف أو يغذيها، حيث تحدث فور عودته من قمته الأخيرة مع كلينتون وعرفات، عن بدء العمل على اقامة مستوطني أبي غنيم وراس العامود في القدس، وهو تحديداً ما كان سبب الأزمة التي كابدتها عملية السلام طيلة السنتين الماضيتين، كما انه قرر تأجيل عرض مذكرة واي على حكومته للمصادقة، ذلك الذي كان مفترضاً ان يجري يوم الخميس الماضي، متذرعاً بالتزامات قال انه كان يتوقعها من الجانب الفلسطيني ولكنه لم يتبلغها. صحيح ان مثل هذا السلوك من رئيس الحكومة نتانياهو ربما كان الهدف منه طمأنة الأوساط المتطرفة في اسرائيل، من مستوطنين وأحزاب أقصى اليمين الديني أو غير الديني، ممن رأوا في التوقيع على الاتفاقية الأخيرة خيانة ارتكبها رئيس الوزراء الليكودي، ولكن تلك مشكلته وليست مشكلة الطرف الفلسطيني أو العربي، اذ عليه هو ان يفرض الاتفاق الذي مهره بتوقيعه، باسم دولته، داخل معسكره، تماماً كما لا يتردد هو عن مطالبة عرفات بفرض ما توصل اليه من جهته حتى بالوسائل البوليسية. ولكل هذه الاسباب، فإنه ليس من المستهجن ان تتحفظ أطراف عربية عن اتفاق واي بلانتيشن وان تضعها أمام اختبار التنفيذ وشروطه، فتقبل على دعمها بقدر إقدام الجانب الاسرائيلي على التقيد بها، خصوصاً وان تلك الاطراف لم يتم، في الغالب، اشراكها في صوغها وفي التوصل اليها، وهي بالتالي في حل من المسؤولية عنها، ولا يمكنها ان تتعامل معها، إقبالاً أو إدباراً عنها، إلا بمعيار وحيد هو مدى ما تحققه من نتائج ومدى حظها من التطبيق. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد كانت، منذ ان بدأت جهدها التسووي في الشرق الأوسط قد جعلت من مسألة ما أسمته "بناء الثقة" أحد المحاور الأساسية لتحركها، فإن هاجس بناء الثقة ذاك بات الآن لا بد من اعادة ترتيب أولوياته. فهو اذا كان قد تمثل، في السنوات الماضية، في جهد تمحور بالدرجة الأولى على طمأنة اسرائيل الى ان الجوار العربي جاد في طلب السلام، فإن ذلك الجوار العربي هو الذي أصبح الآن في أمس الحاجة الى مجهود طمأنة يستهدفه ويتجه اليه، حول نقاط اساسية ثلاث: القدرة على جر اسرائيل الى تنفيذ ما تتعهد به، تحت اشراف الولاياتالمتحدة ورعايتها، والبرهنة على ان الطريقة التي جرت بها المفاوضات الأخيرة لا تعني استبعاداً لأحد أو تهميشاً لدور أحد، وأنها، أخيراً، لا تمثل بداية لإدراج المسألة الفلسطينية وتسويتها ضمن منطق الأحلاف، ذلك الذي يبدو انه قد بدأ يرى النور في منطقة الشرق الأوسط. غير ان كل ذلك لا يضع الجانب العربي في حل من مواجهة السؤال الاساسي التالي: كيف يمكن التحفظ الذي قد يكون مشروعاً، عن اتفاقية واي بلانتيشن الأخيرة، على الأقل في انتظار التحقق من جدية تنفيذها، دون ان يعني ذلك تخلياً عن السلطة الوطنية، تلك التي تنتظرها في وشيك الأيام المقبلة، استحقاقات تفاوضية شاقة عسيرة، تتطلب قدراً من الدعم عالياً