لوهلة ركبني احساس بعدم الراحة وأنا في طريقي لحضور العرض الصحافي للشريط المغربي "مكتوب"، اذ بدت مقاعد الحافلة المخصصة لنقل ضيوف مهرجان القاهرة فارغة الا من مجموعة صغيرة قبلت دعوة مشاهدة هذا الفيلم المدرج ضمن أفلام المسابقة الرسمية. وتضاعف هذا الاحساس حال وصولنا الى قاعة العرض السينمائي في وسط البلد، اذ خلت هي الأخرى من جمهور كان بإمكانه طرد ذلك الاحساس العابر. لكن ما ان حلت العتمة وتوالت اللقطات الأولى، حتى أدركت انني ظفرت بفيلم يستحق المشاهدة والثناء، لا على صعيد توازن الصورة مع الحبكة بل لقدرة مخرج شاب غير معروف على فهم اللغة السينمائية، بكل ما تحفل به من ممكنات جمالية، وتوظيفها في مقاربة حادثة حقيقية هزت بلده قبل عامين. المخرج نبيل عيوش في "مكتوب" يدعونا الى متابعة قصة بطلها طبيب يدعى توفيق وزوجته الشابة صوفيا، دُعي لحضور مؤتمر طبي في مدينة طنجة. مشاركة توفيق في ذلك المؤتمر تقلب سلم أولياته، وتحيل رحلته الى امتحان شخصي لقوة علاقته الزوجية. فبعد وصوله الى طنجة والاقامة في أحد فنادقها، يجد نفسه واقعاً في شرك نصب له، إذ يتعرض الى حالة تسمم دبرها مدير الفندق، ما يدفع زوجته للخروج ليلاً الى المدينة على أمل البحث عن طبيب يكشف على زوجها. وهذه الحبكة هي تمهيد لعملية اختطافها واقتيادها الى شقة حيث تجد نفسها مع اخريات ضحية اغتصاب وابتزاز موثق على شريط فيديو. وما ان ترجع الى غرفة الفندق في الصباح التالي حتى يتبين الزوجان حجم المصيبة التي حلت بهما، لذا يقرر توفيق الانتقام بواسطة الحل الشخصي، فيتصل بأخيه مفتش الشرطة الذي لم يره منذ سنوات ليخبره بما حدث. ووسط حيرة الاخ وذهوله، يتمكن توفيق من سرقة مسدسه والرجوع الى الفندق. وتحت تهديد السلاح يقتاد مدير الفندق الى تلك الشقة للحصول على شريط الفيديو، وبعدها يقرر الهرب مع زوجته بصحبة تلك الوثيقة تداركاً للفضيحة الاجتماعية. حصول توفيق على شريط الفيديو ينقل إيقاع الفيلم الى مستوى أفلام المطاردات البوليسية المشوقة، ويحيله أيضاً الى رحلة اكتشاف شخصي للزوجين، لكن البطل في النهاية يستسلم الى قناعة اللجوء الى مركز شرطة لتسليم نفسه. وهنا يتهكم المخرج عيوش على ذلك الجهاز في لقطة ذكية، فما ان يدخل توفيق مع زوجته الى المركز على أمل الحديث مع أحد الضباط، والذي يتطلب أخذ موافقة شرطي الاستعلامات، حتى نتبين ان ذلك الشرطي غير معني بالناس ومشاكلهم بقدر ما هو معني بالحديث الفارغ مع زميل له أو على الهاتف… تمكن المخرج نبيل عيوش من تقديم شريط واعد تضافرت في نسجه مهارة الصنعة السينمائية والمقاربة الاجتماعية، وبانت استفادته من خبرة العمل في الإعلانات التجارية، وعمادها ايصال الفكرة عبر تشكيل صوري وبزمن محدد. وربما نجد في السينما القادمة من شمال افريقيا جزءاً من عزاء السينما العربية. بعد مشاهدة "مكتوب" التقت "الحياة" المخرج الشاب عيوش، الحاصل على جائزة الكاتب نجيب محفوظ لافضل عمل روائي أول وجائزة لجنة التحكيم لافضل فيلم عربي وقدرها 100 الف جنيه مصري، ودار الحوار التالي: هناك لمسة أوروبية واضحة على مجمل اللغة السينمائية لشريطك، هل هذا بفعل الدراسة؟ ام بفعل الاستعانة بفنيين فرنسيين؟ ام انها جزء من منجز السينما المغربية؟ لا اعتقد بان أفلام الأكشن حكر على مخرجي أوروبا وأميركا، بل يمكنني القول ان فيلمي هو تعبير عن اسلوب عربي جديد في توظيف اللغة السينمائية لمقاربة حال محلية. ذلك ان كل ما اطمح اليه من خلال مسيرتي الفنية القصيرة توكيد حقيقة مفادها ان الفنانين المغاربة قادرون على مقاربة حالات اجتماعية شديدة الخصوصية عبر أفلام كوميدية او "اكشن" او اجتماعية تضاهي ما نراه في السينما الأوروبية، ومثلما ذكرت علينا ان نتنبه الى جذورنا الثقافية. اطمح الى ان يصل فيلمي الى أكبر عدد من المشاهدين بغض النظر عن الوانهم وخلفياتهم الثقافية، ذلك ان لغة السينما لغة عالمية تتجاوز مثل هذه الفروقات، ومهمة الفنان الحقيقي ان لا يحصر نفسه في محليته، إذ ان ذلك يعني موت الفنان. الاسلوب الذي اتبعته في انجاز شريطك غير مطروق ويحمل قدراً كبيراً من جرأة المخرجين الشباب، أي ان هناك تثويراً للخطاب السينمائي المحلي؟ علينا كشباب ان نستفيد مما حققته السينما العالمية، ومهمتنا ان لا نقع فريسة الشهرة السريعة، تلك التي نجد مزالقها في تقديم افلام هي عبارة عن بطاقات سياحية عن بلداننا. فالجهات الممولة بالضرورة لها غاياتها وشروطها، لكن يجب ان لا نعطيهم ما يريدون، بقدر ما نريد ان نقوله نحن كشباب وكجيل جديد. ولكن هل تعتقد بان ذلك سهل من دون قبول نوع من المساومات؟ الجهات الممولة تساومك في كل شيء، لكن عليك ان تدرك ان السينما اصبحت جزءاً مهماً من ثقافتنا البصرية. انني لا اتفق مع بعض الذين يقولون اننا لا نملك التقنيين والقدرات الفنية، بل نحن نملك من القدرات الفنية المتميزة ما بامكانها ان تفعل كل شيء ان ارادت. ان من السهولة الحصول على الدعم المادي وعمل شريط سينمائي بمواصفات اختيرت لك سلفاً، لكن السؤال المطروح هو: من ستكون؟ باعتبارك احد المخرجين الشباب، هل يمكننا الحديث عن اسلوب جديد يتبعه هذا الجيل في تناول المشاكل اليومية وايجاد فسحة عمل لهم في آن؟ لا استطيع التحدث عن اسلوب واحد في السينما المغربية لانه غير موجود، وانما استطيع القول ان جيل الشباب لهم افكار واسعة منها ما يتحقق وآخر لا يرى النور. وشريطي هو أحد أفكار هذا الجيل، اذ ان هناك صعوبات جمة في إنجاز الشريط السينمائي، فالتلفزيون الفرنسي مثلا اعطاني مبلغاً من المال بشرط التحدث باللغة الفرنسية ما دفعني الى رفض هذا العرض، لذا قررت قبول مبالغ صغيرة لانجاز "مكتوب" ولا اعتقد بان كل المخرجين يفعلون الشيء نفسه. هل يمكن ان تحدثنا عن السينما المغربية، وهل هناك ثمة أزمة تعيشها هذه السينما؟ عانت السينما المغربية من أزمة منذ بداياتها في الستينات وحتى التسعينات، إذ ظلت نخبوية ومحدودة التأثير، لكن خلال السنوات القليلة الماضية بدأت السينما المغربية والمخرج المغربي يتنبهان الى هذه المشكلة ويقتربان من الحياة العامة. المشكلة هي في محدودية اللهجة المغربية، وكم اتمنى ان يصل فيلمي الى المشاهد في نيويورك وباريس وبغداد…. لو نرجع الى "مكتوب"، ما الذي دعاك الى توظيف ذلك المقطع الشعري في نهاية الفيلم، وكأنك تقول ان لا خلاص نهائياً لحال بطلك؟ انا من مدينة فاس، وهذه المدينة معروفة بروحانياتها وتصوفها. المقطع الشعري الذي استخدمته هو أبيات من مجموعة قصائد كتبتها نساء حكم عليهن ازواجهن بعدم مغادرة منازلهن، وهو في حقيقته حكم اجتماعي، لذا وجدن في كتابة الشعر وسيلة لكسر حال العزلة والتعالي على ثقل ايامهن. من هنا قلت في نفسي ان حال بطلي الفيلم لا تختلف كثيراً عن حال تينك النسوة، اذ انهما وقعا في شرك ليس من خيارهما والهروب يعني المواجهة، ان فكرة الفيلم هي اننا سجناء حالات ليست من صنعنا. هناك تعقب بوليسي ولكنه في النهاية يصب في الخانة الاجتماعية؟ "مكتوب" هو فيلم يمكن وضعه في خانة أفلام الطرق Road Movies او الأفلام البوليسية، لكنه يأخذ مصادره من الواقع المغربي. فالجمهور المغربي لا يذهب الى السينما لمشاهدة قصة مخرج، بل لسماع ورؤية قصة قريبة منه، اذ ان في ثنايا الفيلم ما يجعلك تتخيل القصص. كيف كانت ردود فعل الجمهور المغربي الذي ذهب لمشاهدة فيلمك؟ كنت مذهولاً، فخلال ثلاثة أسابيع حقق الفيلم ما يعادل 30 الف دولار اميركي، وهذا مبلغ كبير يحققه فيلم مغربي، وما زال يعرض في سبع دور سينمائية. فمثل هذا الإقبال الجماهيري هو من دون شك مبعث سروري. ما الذي اردت ان تقوله عبر قصة هذين الشابين، اذ وضعتهما امام امتحان كان عليهما اجتيازه على رغم هشاشة تجربتهما الحياتية، هل هناك بعد سياسي وراء ذلك، ولماذا كانت النهاية مفتوحة؟ كل ما أستطيع قوله انه على رغم حال الحب التي يعيشها بطلا الفيلم إلا انهما يفتقدان خبرة الحياة ومطباتها، فالحلم غير كافٍ لمعرفة الحياة. اما الاجابة على الشق الثاني، فانني عندما أصور لا اريد ان أعطي أجوبة قطعية، واذا فعلت ذلك سانتهي في خانة الخطابة. عندما عرض الفيلم في المغرب كثيراً ما سئلت عن لقطة معينة او ما قصدته في موقف محدد… وكان جوابي هو: ماذا فهمتم من الفيلم؟ ذلك هو ما أطرحه على المشاهد. عملت أولاً في الإعلانات التجارية، كم استفدت من تلك التجربة؟ العمل في الإعلانات التجارية يعلمك دروساً كثيرة ومهمة، أولها احترام عنصر الزمن. فخلال مدة محدودة وتحت ضغط الجهة الممولة عليك تقديم صورة تختصر الزمن الى حدوده الدنيا من أجل إعطاء مساحة للمعنى او للفكرة او للرسالة التي يريد ان يوصلها هذا الإعلان.