"مونيكا غيت" هل هي أزمة سياسية، أم كارثة ثقافية فكرية، أم هي ضريبة أخلاقية، أو مجرد أتاوة على الإعلام والحرية؟ الاجابة عن هذا الاشكال تبدو للوهلة الأولى بسيطة جداً، غير أن عمق التمعن فيها يبرز العكس تماماً... فعلى مستوى أولي ابان معظم استطلاعات الرأي العام مدى شعبية كلينتون، وهو ما يعني في الاتجاه المعاكس ثقة في الشخص أكثر منها ثقة في المؤسسات. فبينما اتجهت العدالة - على المنوال الأميركي - أبعد ما يمكن تصوره من خلال البحث عن توريط الرئيس كلينتون في أزمة "مونيكا غيت" من جهة، يتضح جلياً الاستعداد "النفسي المؤسسي" للكونغرس للتعامل بجدية مع تفاصيل نتائج تحقيقات القاضي "ستار" مبرز عمق هوة فراغ ثقافي - فكري ناتج عن منافسة مالية إعلامية شرسة من جهة أخرى. ذلك ان هذه القضية يصعب أن يختلف اثنان حول مدى تورط اللوبي الصهيوني فيها، سواء من حيث توقيتها، أو حجمها أو من حيث فاعليها، وبإجمال على مستوى الوسائل المستخدمة فيها وعلى رأسها استعمال المؤسسات الدستورية مطية وأهدافاً لصالح سلطة المال، وبالتآمر مع سراديب الأفكار التي كثيراً ما دافع عنها المنطق الأميركي البراغماتي. وليس هناك ما يلفت الانتباه بخطورة أكثر من ذلك البين بين شعبية كلينتون وتوجهات كل من مؤسستي العدالة والتشريع، ما يضع قدرة المواطن الأميركي على التمييز موضع الريبة والحذر. صحيح ان هناك من يرد قائلاً بأن الأمر يتعلق باحترام القانون لا غير، لأن المحقق "ستار" لم يقم إلا بما يمليه الواجب والقانون والضمير، وان مناقشة الثمانية والثلاثين، نسبة الى لجنة الكونغرس القضائية بمجلس النواب المكونة من سبعة وثلاثين عضواً بالاضافة الى رئيسها، لن تتم إلا في اطار القانون والسياسة. لكن بين تحقيق "ستار" ومناقشة الثمانية والثلاثين سيتداخل القانون والسياسة و"الأخلاق" و"الضمير"، وهي كلها أحداث مرتبطة بفاعلين ظاهرين وآخرين في الخفاء. ولكن شتان ما بين الفكر المتحرر والأفكار المقولبة حيث يتدخل المال بكل اشكال سلطته، ويطرح من جديد التساؤل حول نوعية وقيمة الحرية في التعامل مع الأفكار، لتجسد أزمة "مونيكا غيت" ابلغ تعبير عن فراغ فكري تربوي يعاني منه المجتمع والدولة في الولاياتالمتحدة الأميركية، وفي الواجهة مظهر من مظاهر تسلط المال والإعلام الصهيوني على الفرد والمجتمع والدولة ينتج تساؤلاً حقيقياً وواقعياً عما إذا كان الفرد الأميركي فعلاً يتمتع بحقوقه وحرياته وعلى رأسها حقه في التفكير بحرية. إن حقوق الانسان بكافتها مرتبطة بحق مبدئي وأساسي وهو الحق رقم 1، ألا وهو الحق في تشكيل رأي حر تجاه الآخرين والأحداث وفي النهاية تجاه الأفكار. لقد صادر التحالف المقدس بين المال والإعلام الصهيوني، ولا يزال مستمراً في مصادرة هذا الحق من المواطن الأميركي، ما يسمح بالنفي المسبق لأن يكون هذا الانسان قادراً على ممارسة حقه هذا. ان هذا التحالف الموجه أساساً ضد الانسانية وقيمها - إذا كانت فعلاً هناك ديموقراطية - ضد المبادئ النبيلة للديموقراطية والقيم المتميزة التي تبناها مفكرو الثورة الفرنسية، ومهندسو الثورة الصناعية بصفة عامة، ومؤسسو الولاياتالمتحدة الأميركية بصفة خاصة. بعبارة أخرى يمكن تصنيف هذا التحالف على أنه واجهة جديدة لامبريالية استعمارية بدأت في أميركا بمصادرة حرية التفكير من الفرد بشكل مغاير لما كانت عليها نظيرتها في عهد الكنيسة في القرون الوسطى، وستتوسع في العالم بمصادرة الدم والاقليم من الانسان أينما كان، كلما خرج على قواعد لعبتها. ولكن كما قالت النائبة الديموقراطية من كاليفورنيا، نانسي بولزي، لن يدفع فاتورة هذه الوضيعة الأميركية سوى الشعب الأميركي، ولو أني لا اعتقد بقناعة هذه النائبة المحترمة بفكرتها هذه. وهذا بالضبط ما يجسم عمق الهوة بين الشعب الأميركي ونخبته السياسية والتي غالباً ما تفتح الفرصة أو تتيحها للتنظيم الصهيوني المحكم للتدخل عبر اعلام مكثف، يعبر بجلاء عن فراغ فكري تربوي وثقافي يشكل معضلة لدى الفرد والمجتمع والدولة في الولاياتالمتحدة، وهو ناخر كيانها وفاعل اضمحلالها وغروب شمسها. فمن وجهة نظر سياسية لن يستطيع أي سياسي في الولاياتالمتحدة الأميركية مهاجمة رئيس شعبي، وبالتالي فإن المناقشات السياسية التي ستعرفها لجنة الثمانية والثلاثين سيطغى عليها منطق واحد هو: كيف يمكن التحكم في هذه الوضعية التي من شأنها زلزلة المؤسسات الدستورية؟ أما من وجهة نظر اقتصادية فإن الجماعات الضاغطة، عبر اذنابها داخل هذه اللجنة ستعمل من أجل الضغط على البيت الأبيض لتوفير "مراعٍ خضراء شاسعة"، في افريقيا وآسيا وأوروبا وبصفة خاصة في منطقة الشرق الأوسط وبتحديد أدق في حوض البحر الأبيض المتوسط ودول الخليج. أما على المستوى الاستراتيجي فلن يجد مهندسو الاستراتيجية الأميركية سوى التحرك بسرعة لخلق توترات في مناطق اقليمية قابلة للاشتعال، ولكن سهلة التحكم، وعلى رأسها عملية عسكرية اسرائيلية مباشرة في منطقة الشرق الأوسط، أو غير مباشرة عبر عملاء الموساد في احدى الدول المستهدفة عربياً وهي السعودية وسورية والعراق ثم ليبيا، وذلك حرصاً على المزيد من الابتزاز السياسي والمالي. وكيفما كانت الأبعاد التي ستأخذها هذه الأزمة - مونيكا غيت - وكيفما كانت النتائج التي ستتمخض عنها فإن الخاسر الأكبر فيها هو الفرد والمجتمع والدولة الأميركية، وهي خسارة تعبر بقوة عن أزمة سوسيو - ثقافية أكثر منها سياسية، ومن ثمة في تجسيد للفراغ التربوي - الثقافي الذي يعيشه المجتمع والفرد في الولاياتالمتحدة نتيجة تسلط التحالف المقدس بين المال والإعلام الصهيونيين، في هذه الدولة التي فعلاً بدأ العد العكسي لغروب شمسها. * باحث في العلوم السياسية.