لفهم تاريخ الحضارة الإسلامية في الجزائر وخصوصاً تطور الفن الإسلامي بها، من المهم الإلحاح على انتماء هذا البلد الى مجموعة البلاد العربية الإسلامية المحددة في إطارها الجغرافي والتاريخي، والتذكير بالوضعية التي يحتلها في العالم الإسلامي، وفي جهته الغربية تحديداً، إذ كان للجزائر مكانة بارزة في ما كان يعرف بالمغرب الأوسط بين المغرب الأقصى والمغرب الأولى الذي كان يسمى أفريقيا، والذي تحتل تونس اليوم جزءاً كبير منه. وقد وضع هذا الموقع الجزائر تحت تأثيرات سريعة وعميقة من قبل جارتيها اللتين نقلتا اليها طرق وحضارات البلدان البعيدة. وقد تجاذب المغرب الأوسط تياران عربيان اسلاميان: أحدهما شرقي أخذ مصادره من الشام والعراق ومصر وفارس والآخر من الغرب انطلق من اسبانيا المسلمة عبر المغرب الأقصى. وان القاء نظرة على خارطة العالم الإسلامي في ذلك الوقت يكفي للخروج بهذه المعطيات الأولية. خلال فترة تقارب الإثني عشر قرناً التي تفصل ما بين فتح إفريقية 688م واستيلاء فرنسا على الجزائر 1830م ثمة حادثان كبيران يتيحان التمييز بين ثلاث مراحل تاريخية تختص كل منها بحالة ما قبل البناء هما دخول العرب الفاتحين الذي أنهى الى حد كبير مرحلة ما قبل الإسلام في الجزائر ومهد لدخولها في مرحلة جديدة، ثم تواجد الأتراك في مستهل القرن السادس عشر الميلادي الذي بدأت ترتسم معه معالم حياة جديدة للجزائر. وخلال القرون الأربعة الأولى من الفتح كان الشمال الإفريقي تحت السيادة العربية التي تمددت مراكزها في الشرق، فمن دمشق الى بغداد ثم القاهرة، وقد فرضت على بلاد البربر سلطة سياسية مغايرة لكنها كانت تمارس عليهم تأثيراتها الروحية القوية. ولقد كان لمدينة القيروان بوصفها أكبر مركز اشعاع عربي إسلامي في المنطقة، أثر قوي في ثقافة الجزائر الإسلامية التي تبلورت فيما بعد، كما تبلور فنها ذو الأصول المشرقية والمغربية معاً. وفي منتصف القرن الحادي عشر ظهرت القبائل العربية التي تعد، في عرف الكثير من المؤرخين الأجانب، احتلالاً عربياً ثانياً للمنطقة، وقد كان الزحف الهلالي من بين الأسباب في خبو أنوار القيروان. لكن مرحلة ثانية في التاريخ الإسلامي بالمنطقة قد بدأت، فانتقل مركز الثقل من الشرق الى الغرب، حيث تمركز الثراء الاقتصادي والقوة السياسية والحياة الثقافية والنشاط الفني في المغرب، ومن هناك كانت الجزائر تتلقى أشعة ذلك الزخم الحضاري الثري، وارتبط المغرب بدوره، بمختلف دوله، بإسبانيا المسلمة، ترتد اليه ثقافته ممزوجة بعناصر وألوان أخرى من الأندلس. وظل التبادل بين ضفتي المضيق مستمراً على مدى قرون من الزمن: يقوم المغرب بإمداد الأندلس بالجيوش الفاتحة ويتلقى مقابل ذلك قوافل من العلماء والأدباء والحرفيين والصناع. وهكذا تأسست في هذه البقعة من أقصى العالم الإسلامي الحضارة الإسبانية الموريسكية التي ولدت في قرطبة وكبرت في اشبيليا وغرناطة وتفتقت على مراكشوفاس والرباط وتلمسانوالجزائر. لكن الغزوات الإسبانية المنتقمة حاولت بتر جذور ذلك الزخم الذي امتدت حياته في المغرب، وفي تلك الأثناء فإن تواجد الأتراك في الجزائر منذ بداية القرن السادس عشر، يعد بداية المرحلة الثالثة من مراحل تاريخ المنطقة. لم يكن النظام التركي الجديد يولي الجانب الفني كبير اهتمام، إذ لم يتمتع الحكام سوى ببعض مبادىء الثقافة وكان جل اهتمامهم منصرفاً لرد غزوات الإسبان وسائر الأوروبيين عن السواحل المغربية ومطاردتهم في عرض البحر المتوسط، لكن تأثير الجزائر بالروح التركية سرعان ما تجلى في بعض المعالم من مساجد وقصور وسفن، وفي التقنيات الفنية وتفصيل الملابس، واشتركت في هذه الأساليب الحضارية الجديدة مع كل الشعوب التي كانت تحت سيادة الأتراك على ضفاف حوض البحر المتوسط، وأعيد خلق شكل من أشكال الوحدة التي يمكن مقارنتها بتلك التي تسود أيام الخلفاء الأمويين والعباسيين. لكن هذا الفن الإسلامي الذي انتشر في القرون الأخيرة لا يكاد يلامس فن العصور الذهبية الإسلامية إلا ملامسة محدودة. وعلى رغم أن الجزائر ظلت منذ بداية التواجد العربي الإسلامي بها تتلقى الإشعاعات الحضارية المختلفة الوافدة اليها من المشرق والمغرب إلا أن دورها في إثراء الفن الإسلامي كان عظيماً، فقد حاولت التعبير عن شخصيتها من خلال الأعمال والروائع الفنية الماثلة على أرضها، إن كنا لا ننكر أن معظم هذه الأعمال يستلهم من مصادر التأثير الإسلامية الأخرى بما أن هذا البلد قد خضع لتيارات مختلفة، وهو ما يعزز موقعها من الخارطة العربية الإسلامية. في تونس يمكن العثور على المعالم الأولى للفن البربري الإسلامي متمثلة في جامع القيروان الذي تأسس في بداية الفتوحات الإسلامية للمنطقة ثم خضع لإضافات وتوسعات كثيرة عقب ذلك ويعد من أهم معالم الهندسة الإسلامية، ولا نعثر في جزائر تلك الحقبة سوى على آثار اقتباس واستلهام من جامع القيروان في مسجد أبي مروان بعناية، كما عثر في تيهرت - عاصمة الدولة الرسمية - على قلعة يشبه مخططها مخططات قصور الأمويين، وهي مجردة من كل زخرفة مما قد يفسر وظيفتها العسكرية. وعلى بعد 500كلم من تيهرت، وفي مدينة سدراتة الصحراوية التي لجأ اليها أهل تيهرت، نعثر على ملامح الزخرفة الفنية المحلية، وقد وجدت آثار بنايات من فترة ممتدة ما بين القرنين العاشر والثاني عشر الميلاديين مدفونة تحت الرمال. وبدت، بعد تعريتها، بفنائها المركزي وحجراتها الواسعة بمخادعها الجانبية وزخرفتها المنحوتة على الجبس، وتبدو هذه الزخرفة موروثة أو مستلهمة من الفن الإفريقي الشبيه، آنذاك، بالفن المسيحي والقوطي، لكن أشكال بعض الأقواس تكشف عن التأثير المحتمل للفن الشرقي سيما وأن خوارج البربر الاباضيين - الذين سكنوا تيهرت ثم سدراته وبعض مناطق الجنوبالجزائري - كانوا على علاقة وطيدة بالشرق. وفي بداية القرن العاشر الميلادي سقطت تيهرت في يد الفاطميين الذين سطع نجمهم من جبال الشمال القسنطيني ومكنوا لحليفهم الصنهاجي "زيري" تأسيس مدينة "آشير" جنوبالجزائر العاصمة والتي مكنت أعمال الحفر بها من العثور على بقايا قصر من قصور "زيري" شيد في بداية الثلث الثاني من القرن العاشر وهو حسن التصنيف ومتجانس ويبدو التأثر بهندسة قصور المهدية بتونس واضحاً في هذا القصر. وكما لمع إشعاع الفن الفاطمي في القاهرة التي انتقلت اليها الخلافة في نهاية القرن العاشر الميلادي فقد تَبَدَّى في قلعة بني حماد أيضاً، هذه العاصمة التي ظهرت الى الوجود بالجزائر خلال القرن الحادي عشر واستلهمت هي الأخرى من المعالم التونسية المعاصرة لها: يظهر ذلك من خلال منارتها المنتصبة الى اليوم وسط حقل مترامي الأطراف من الآثار، وكذا القصور ذات الهندسة الأفريقية التي تتغذى من التأثيرات الشرقية الآتية ليس من مصر فحسب ولكن أيضاً من العراق وبلاد فارس، ويكفي هنا التذكير بالكوات الطويلة التي تحيط بواجهات القصور - كما هو الحال في الهندسة الساسانية - والمرايا المائية التي تحتل الفناءات والجداريات الخزفية التي تزين الحجرات والرواسب الكلسية التي تعد اختراعاً فارسياً. ولا تتيح بجابة التي انتقلت اليها عاصمة الحماديين في بداية القرن الثاني عشر، للدارس اليوم تلمس المزيد، سوى بعض أجزاء إطار الباب المفضي الى مرسى السفن. ولدت المرحلة الثانية للفن الإسلامي بالجزائر في المنطقة الغربية حيث ساد تأثير المغرب والأندلس والذي بدأ يتأكد مند القرن الحادي عشر في المساجد التي شيدها المرابطون في كل من الجزائر العاصمة وندرومة وتلمسان على وجه الخصوص، إذ يعد جامع تلمسان نسخة من جامع قرطبة سيما في محرابه والقبة الموجودة أمامه واللذين يعدان من أجمل ابداعات الفن المغربي الأندلسي الباقية. واضطلعت تلمسان بعد ذلك بمهمة عاصمة بني عبد الوادي الى غاية القرن السادس عشر واحتفظت بمعالم كثيرة أبرزها المنارة المشيدة وفق الأسلوب الأندلسي، وهي ذات شكل مربع ومصنوعة من الآجر المصقول والقوي في آن. لكن لا ينبغي أن نغفل نسبة مسجد سيدي أبي الحسن الذي يعود تاريخ تأسيسه الى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، الى بني عبد الوادي، والذي يمتاز بزخرفته التي تضاهي زخرفة "الحمراء" بغرناطة. ولم تلبث تلمسان أن تعرضت بعد ذلك لهجمات متتالية من سلاطين فاس احتلوها وأسسوا في ضواحيها مدينة المنصورة المتميزة بمنارتها الشهيرة والتي تعد من روائع الهندسة الإسلامية بالمغرب العربي، ولما استتب لسلاطين فاس الأمر بتلمسان راحوا يكرمون العلماء والزهاد والصالحين بتشييد الأضرحة كضريح سيدي أبي مدين. وهكذا فإنه من المفيد التوكيد على أن هوية الجزائر الثقافية ظل يتجاذبها تياران متناقضان: أحدهما محلي أصيل والآخر دخيل تتملكه نزعة التدمير والمسخ، إلا أن روح المقاومة التي تمتع بها أهل هذه المنطقة منذ قرون مكنتهم من تحصين عناصر هويتهم العربية الإسلامية، فانفتحوا طوال هذه القرون على روافد الحضارة الآتية من اخوانهم في المشرق والمغرب وكان لا بد أن يصدوا كل محاولات الاحتواء التي كانت تأتي من الضفة المقابلة للبحر الأبيض المتوسط