مع تراجع الأزمة التركية مع سورية أخيراً... بدا أن الانفراج المأمول عربياً في الأزمة قد حدث. والانفراج - طبعاً أفضل من الاشتباك. لكنه يظل أقل من الحل. فالأزمة التركية مع سورية كان البُعد الكردي عنوانها. وبهذا العنوان حصلت تركيا على ما تريده من سورية. إدانة مجددة لحزب العمال الكردستاني. التزام بمحاربته كحركة إرهابية. التزام أوسع بعدم سماح سورية بأي نشاط يهدد الأمن التركي. ثم ماذا؟ قبل أن تهنئ الأطراف المعنية بعضها بعضاً - كل لأسبابه الخاصة - لا بد أولاً من استخلاص الدروس الأساسية في ما جرى. ولأن الطرفين الأساسيين أمام الكاميرات هما سورية وتركيا... فإنه يصبح مهماً تأمل المغزى الصحيح لما جرى. سورية من ناحيتها هي التي تحسب لها حكمة عدم الأنجرار الى الفخ الذي كان منصوباً لها. هكذا أدارت سورية رد فعلها الخاص بالتركيز على الأهم فالمهم. وفي المستويين السياسي والديبلوماسي تجاوبت سورية بمنطق صحيح مع جهد عاجل ومكثف من مصر وإيران لم تجد تركيا العسكرية في النهاية مفراً من التجاوب معه... موقتاً. لكن في المستوى الإعلامي كان أداء سورية متواضعاً تماماً. وهذا هو أخف الأوصاف الممكنة. في السياسة لا يكفي أن تكون لديك قضية صحيحة. وسورية لديها قضية صحيحة. لكن اعتماد سورية الإعلامية على صحة قضيتها السياسية جاء تعبيراً مدهشاً عن الارتباك والعجز والافتقار إلى الأداء الصحيح. لم يعد مطلوباً في الإعلام العصري حناجر عالية، أو مقالات بالشجب والإدانة، أو التقولب في إطارات حزبية خانقة. الإعلام العصري أساسه الديناميكية، والموضوعية، والحقائق المجردة. لقد كان غريباً هنا أن نلاحظ أنه في سياق الأزمة كانت تركيا تمطر السماء العربية على مدار الساعة باتهامات ما أنزل الله بها من سلطان. اتهامات تعود إلى نحو أربعين سنة مضت وكل هدفها هو إرباك سورية إعلامياً وإرغامها على الانكفاء على نفسها. في المقابل تتصرف سورية الإعلامية على أساس اقتناع المؤرخين بصحة قضيتها... وبالتالي فإن التصحيح متروك للمؤرخين. بعد عمر طويل إن شاء الله. تزيد غرابة تلك الإدارة الإعلامية تأكيداً حينما ندرك أنه بينما فوجئت أطراف عديدة بالأزمة التركية الأخيرة ضد سورية، إلا أن سورية على وجه الخصوص هي الطرف الأساسي الذي ما كان يجب أن يفاجأ ويؤخذ على غرة. إذ كان لديه كل الوقت اللازم لتحضير واجباته المنزلية مسبقاً، بهدوء وموضوعية. لا أحب في هذا السياق أن استخدم منطق "قلنا لكم هذا". لكن الحقيقة المجردة هي فعلاً: قلنا لكم هذا. في هذه الجريدة تحديداً - "الحياة" - وقبل 18 شهراً. تناولت المحور العسكري الجديد في المنطقة بين تركيا وإسرائيل، وكتبت تحديداً: "إن هذا المحور اكتسب جرأة لم تكن مألوفة من قبل. واقترنت تلك الجرأة بإحدى ثلاث حالات، أو بالحالات الثلاث معاً. أولاً - حالة احتقان المفاوضات السورية - الإسرائيلية تحت الرعاية الاميركية واستمرار سورية في التمسك باسترداد أرضها المحتلة كاملة. ثانياً - حالة قيام الولاياتالمتحدة بتصعيد حصارها الخاص ضد إيران ضمن العملية الكبرى لإعادة رسم خرائط المنطقة فيما بعد انتهاء الحرب الباردة. وثالثاً - حالة فشل الحل العسكري ضد أكراد تركيا ورغبة المؤسسة العسكرية التركية في تصدير أزمتها الى الدول المجاورة". كان هذا في ايار مايو 1997، وفي أيلول سبتمبر الماضي قام مسعود يلماز رئيس وزراء تركيا بزيارة إلى كل من إسرائيل والأردن وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، في ما أصبح كتابة جديدة على الحائط... لقد تلاحقت تصريحات يلماز الملتهبة ضد سورية. لكن رئيس وزراء إسرائيل بدا أكثر تحديداً حينما تحدث عن العلاقة الأمنية الخاصة والمتميزة بين إسرائيل وتركيا، وهي علاقة ترى إسرائيل أنها يجب أن تصبح النموذج السائد في منطقة الشرق الأوسط، وأن على الدول العربية خصوصاً الانضمام الى هذا المحور الإسرائيلي - التركي الجديد. أما صحيفة "معاريف" الإسرائيلية فقد كانت أكثر وأكثر تحديداً حينما ذكرت أن المحور الجديد الذي تسعى إسرائيل وتركيا الى تشكيله هو تحالف اقليمي تتولى فيه إسرائيل وتركيا زمام القيادة، وأن هذا التحالف: "يعتبر غاية في الأهمية، وسيثير قلق سورية ومصر وإيران". الآن أضيفت مصر الى القائمة علناً. وبوضوح. هذا في حد ذاته جعل سياسيين إسرائيليين يلومون بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل. اللوم هنا لم يكن بسبب المحور الجديد مع تركيا. فتلك كانت سياسة إسرائيلية ثابتة منذ أيام ديفيد بن غوريون وسنوات الخمسينات. لكن اللوم كان لعدم حرص نتانياهو بالقدر الكافي على تكتم المضمون الحقيقي لذلك المحور. فبهذا القدر من العلانية لن يصبح أمام مصر من خيار سوى التوجس شراً من كل ما يجري، والتضامن مع سورية في وقت عملت فيه إسرائيل بدأب وهمّة على إبعاد مصر عن سورية بأي ثمن طوال ربع القرن الأخير تحديداً. من اللافت هنا أيضاً أن تركيا الرسمية قبلت بالجهد المصري الأخير بينها وبين سورية. إن لم يكن في البداية على مضض فبالتأكيد على غير هوى جنرالات المؤسسة العسكرية، التي هي بدورها السلطة الفعلية في تركيا. هذا يدخلنا الى الشق التركي في الأزمة. هؤلاء الجنرالات ودورهم في الحياة السياسية مقنن بنص الدستور التركي ذاته. في كثير من المرات كانوا يحكمون بشكل مباشر معلن من خلال انقلابات عسكرية كما حدث في سنوات 1960 و1971 و1980. في أوقات أخرى كانوا يتجملون وراء القناع الحزبي المطلوب أوروبياً لإعطاء غطاء ديموقراطي لتركيا. لكن تركيا، بعد طول تسكع على أبواب أوروبا منذ سنة 1963 جاءتها لحظة الحقيقة في النهاية: لن تسمح أوروبا لتركيا بالانضمام الى "الاتحاد الأوروبي" في المستقبل المنظور. في الوقت نفسه كان فشل الجنرالات متكرراً في التعامل مع الملف الكردي داخل تركيا. والهروب التقليدي المتكرر هنا هو تصدير المشكلة الى الخارج. لا بد هنا أن نلاحظ أنه خلال أسبوع حافة الهاوية الذي مارسته تركيا مع سورية كان جنرالات تركيا يخوضون قتالاً فعلياً ضد أكرادهم في الحدود التركية مع إيران. في الوقت نفسه يخوضون قتالاً فعلياً آخر مع الأكراد داخل العراق بعشرين كيلو متراً. في نهاية المطاف يظل هناك خمسة عشر مليون مواطن كردي داخل تركيا - أي خُمس الشعب التركي ذاته - في بحث مستمر عن علاقة صحية تسمح لهم بالتعامل الديموقراطي كجزء من النسيج التركي ذاته. والمنطق التركي التقليدي هنا هو: إن هذه مسألة داخلية في تركيا ليس من حق الأطراف الخارجية أن تحشر نفسها فيها. يجوز. لكن ما يبقى من الأزمة التركية الأخيرة مع سورية هو بضعة أسئلة جوهرية. مثلاً: هل تستمر تركيا في خداع الذات وتجاهل حقيقة أن الاتفاق الأخير بين أكراد العراق برعاية أميركية هو الذي سيتجسد منه عملياً فكرة الدولة الكردية المستقلة للمرة الأولى؟ مثلاً: هل التنمر والتجبر التركي الطارئ أخيراً ضد الجزء العربي من محيط تركيا سيجعل الحياة بالنسبة اليها أسهل أو أصعب؟ المقامرون على غرق سفينة العروبة كثيرون أخيراً ومبالغ القمار متصاعدة في جيوبهم والمساحة محجوزة مقدماً للنشر في صفحات الوفيات. فهل يصدق جنرالات تركيا منطق التاريخ أو يصدقون جورج سوروس وبنيامين نتانياهو وخلافهما؟ مثلاً: هل ستتعامل تركيا مع ورقة المياه مع سورية والعراق بما يرضي الله والشرع والقانون الدولي وحُسن الجوار. أم أنها ستمضي في إصرارها على جعل هذه الورقة جزءاً من ملف الوضع الإسرائيلي الجديد في المنطقة؟ مثلاً: هل ستمضي تركيا في تحالفها العسكري مع إسرائيل كما لو أنه لا يوجد عالم عربي. وتستمر أيضاً في التعامل مع العالم العربي كما لو أنه غير معني بإسرائيل؟ تركيا تقول إن التحالف ليس موجهاً بالمرة ضد طرف ثالث. هذا يعني أن جنرالات تركيا أصبحوا فنانين يؤمنون فجأة بفكرة "الفن... للفن"، أو أصبحوا شعراء يروجون لفكرة "الحب... للحب". حلال عليهم. لكن هل تشاركهم إسرائيل الفكرة نفسها؟ مثلاً: ما علاقة التحالف العسكري التركي مع إسرائيل - وهو أصلاً برعاية اميركية - بالرغبة الاميركية في توسيع نطاق حلف شمال الاطلسي جنوباً بموازاة توسيع نطاق هذا الحلف شرقاً؟ مثلاً: ما علاقة هذا كله بالحديث المتواتر أخيراً عن خرائط جديدة للشرق الأوسط من عناصرها الواضحة فرض التسويات الناقصة الجائرة على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال... وبأدوات فلسطينية؟ لقد جعلتنا الأزمة التركية الأخيرة مع سورية نعرف بعض الأسئلة. لكننا لم نعرف - بعد - ما هي الأجوبة. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.