لو كانت صحيحة تلك الفرضية التي تقول إن لكل إنسان، في سماته الشكلية كما في مزاجه وسلوكياته، حيواناً يشبهه، لما كان من الصعب العثور على الحيوان الذي يشبه شيريهان. إنه القط، الهادئ المتربص العصبي الشرس. القط الذي بعد أن يفعل فعلته ينظر اليك بكل هدوء، يدّبل عينيه. يموء بحنان معلناً أنه جائع. هكذا هي شيريهان، طفلة السينما المصرية المشاكسة، مع فارق أساسي، وهو أنه لئن كان القط حاضراً على الدوام، بل أكثر مما ينبغي، فإن شيريهان غائبة دائماً. بالكاد يمكن العثور عليها. بالكاد يمكن التقاطها هاتفياً. وأنت لن تدري أبداً، حتى إن كنت من أخلص أصدقائها، ما إذا كانت في لحظة معينة، موجودة في القاهرة أم في الاسكندرية. في عزبتها قرب الهرم، أم تمخر عباب البحر فوق يخت. تفلت شيريهان من الحضور الجغرافي، تماماً كما تفلت من كل تصنيف. في أحيان كثيرة تُنسى هذه المرأة - الطفلة، يصبح من العسير أن تذكر حضورها بين سيدات الشاشة المصرية، تغيب ملامحها ونظرتها المتوترة، وحركة يديها اللتين لا تهدآن، ويخيل إلى المرء أنها وهم، شبح امرأة من ماض بعيد. انثى لم توجد أبداً. ولكن، فجأة، ما أن يقفز اسمها إلى الذاكرة، حتى تصبح كلية الحضور، مبتسمة، مع ذلك القدر الناعم من الجنون الذي يطبع ابتسامتها، تصبح هي النجمة بامتياز. هي المرأة بامتياز. المرأة التي تصنعها طفولتها الأبدية. وليس أجمل، كما يقول الشعراء، من امرأة تصنعها طفولة أبدية. في مثل تلك الحالات، حين تحضر شيريهان كل الحضور، وحين يحلو لها أن تعزز حضورها الجسدي، بحضور يقوم على الكلام، تصبح شيريهان شلال كلام، ويصبح من الصعب تهدئتها. تحكي عن كل شيء، عن طفولتها عن الآخرين، عن أمها - التي، تنبهك، ليست هي السيدة التي يعتقدون! - عن أخيها الموسيقي الجميل الراحل، عن أفلامها، عن الظلم الذي تعاني منه، عن خاطفات الأزواج، عن منافساتها، عن القاهرة، عن السينما وعن الرقص. وحين تصل شيريهان في حديثها إلى الرقص، تتوقف وتبتسم، وتكف أصابع يدها اليمنى عن الخبط على المقعد بعصبية. يخيل إليك ان الرقص هو، شيريهان، حبة المهدئ. أما حين تحدثها عن أفلامها، عن أدوارها الصاعدة والهابطة، عن غيابها الطويل غير المستحب، فإن القلق يستعيد مجراه، وتعود الأصابع تخبط من جديد. شيريهان - ويا للعجب - تجاوزت الثلاثين من عمرها، ومع هذا ها هي تبدو دائماً على صورة تلميذة "الثانوي" وكأن صلاح جاهين كتب لها، لا لابنته، "يا بنت يامّ المريلة كحلي". عبثاً ترتدي شيريهان ثياب النساء. وعبثاً تحكي حديث النساء. وعبثاً تكثف من "الماكياج" فوق وجهها الجميل. مهما فعلت ستظل في الثامنة عشر. هكذا هي. هكذا خلقت. وهكذا تبقى. شيريهان نجمة؟ لا... بالتأكيد. إنها فتاة استعراض. وصبية شديدة الطموح. وشديدة الذكاء أيضاً. تجابه العالم بذكائها. فمن أين جاء هذا الذكاء؟ من أين جاءت هذه الرغبة في مجابهة العالم؟ من فساد العالم نفسه، ستقول لك شيريهان. العالم الذي لا هواية له سوى ان يدمرك. تسألها: وأنت ألست جزءاً من هذا العالم؟ تفكر طويلاً تسألك: هل تعتقد هذا؟ ولكي تؤكد شيريهان، لنفسها، أولاً وأخيراً، أنها قد لا تكون جزءاً من العالم، تختفي، بين الفيلم والفيلم، بين مشهد الفيلم ومشهد الفيلم. وحين تختفي شيريهان لا تجرب أن تبحث عنها، فهي، التي تختار دائماً لحظة اختفائها لن تسمح لأحد بأن يختار لها لحظة ظهورها. لذا، لا يمكنك سوى الانتظار، سنوات سنوات، قد تشعر بعدها بثقل السنين. ولكن، كن واثقاً أن شيريهان ستبقى خلالها، طفلة... امرأة/ طفلة.