سكان كوسوفو، ولسبب ما، مصابون بعادة غريبة تميزهم عن سائر أهل الأرض. فهم يقتلون أنفسهم ويحرقون قراهم ويهدمون بيوتهم. هذا هو مؤدى الرسالة التي تحاول ان تبثها، وتقنعنا بها، الديبلوماسية الصربية في تفسيرها أعمال الانتهاك والقتل والتهجير التي ينفّذها الرئيس ميلوشيفيتش وقواته هناك. مع ذلك يُخشى ان تجد هذه الرسالة من يصدّقها في موسكو. فرئيس الحكومة بريماكوف يحب ان يصدّق الصربيين لأسباب عدة: فهو، اصلاً، شديد العداء للنفوذ الغربي في البلقان، ويعرف ان دعم بلاده للصرب يُضعف موقع رئيسه يلتسن في مواجهة الغرب. لكن المكاسب، من وجهة نظره، لا تقف عند هذا الحد. فحكومته المتعثرة واقتصاده الشديد التعثر، ربما كانا يبحثان عن مخرج يؤمن لهما "القضية" كما يؤمن القطيعة مع السوق الدولية، والعودة تالياً الى العزلة الاقتصادية للعهد السوفياتي. واذا كان بريماكوف من الوجوه الثانوية للعهد المذكور، فان ثمة قوى عدة، ومؤثّرة، في الحكومة الجديدة ومن يقف وراءها، تفضّل الانفصال على الاتصال. والراغبون في القطيعة، بذريعة كوسوفو واحتمالات القصف الغربي، يمكنهم ايراد اسباب وجيهة لاسناد موقفهم. فنحن، هنا، لسنا ازاء البوسنة لأسباب ثلاثة: أن "جيش تحرير كوسوفو" ليس كالأطراف المعتدلة التي بقيت مسيطرة على زمام الموقف الاسلامي في البوسنة، وأن كوسوفو لم تكن كالبوسنة واحدة من الجمهوريات اليوغوسلافية الفيدرالية بل كانت اقليماً ذا حكم ذاتي في صربيا، وأنها، أخيراً، أشد تداخلاً من البوسنة مع المشكلات الاقليمية لألبانيا ومقدونيا، ومن ثم اليونان وتركيا. أما الذرائع المطلوبة للانفكاك عن السوق الدولية فبسيطةٌ أيضاً، لكنها اليوم شعبية بالتأكيد: أنظروا الى ما حل بروسيا بسبب العلاقة مع الغرب ومؤسساته الاقتصادية! فإذا أضفنا التطورات الخطيرة القابلة للتصاعد على الجبهة التركية - السورية، جاز لنا ان نتوقع الأسوأ في روسيا لناحية الانعطاف نحو القوقعة. ذلك ان انقرة اذ تحشد عسكرياً، وتهدد بلسان رئيس الجمهورية سليمان ديميريل متحدثةً عن نفاد الصبر، فهذا ليس تفصيلاً عارضاً. وإذا بدت سورية قليلة الاكتراث بما يجري في شمالها، فإن روسيا بريماكوف لا يمكنها أن تكون قليلة الاكتراث حيال ما يجري في جنوبها. ورئيس الحكومة الحالي، رجل الكي. جي. بي. السابق، شيخ العارفين بأن الحدود مع تركيا هي حدود مع الاطلسي، فيما سورية صديق تقليدي لما كان الاتحاد السوفياتي. واذا انطوى التحرك التركي على اشارات تخيف موسكو، فما لا ينبغي نسيانه ان روسيا بلد الخوف بامتياز مما يأتيها من جوارها أكان تركياً أم بلقانياً. لهذا اشتهرت الستالينية في الثلاثينات ببناء "الاشتراكية في بلد واحد"، ولهذا أسميت روسيا القيصرية ب"السد" الحائل بين الشرق والغرب. لكن الابقاء على سدّ ربما أرادت أنقرة وقوات الاطلسي هدمه بطريقتها، أمرٌ مُكلف كثيراً، وروسيا مُفلسة كما يعلم الجميع.