بعد انتهاء الاحتفالات السنوية التي قامت في بعض البلاد العربية في ذكرى حرب رمضان التي دارت منذ 25 عاماً وتكلم فيها الكثيرون، ظل رجال حرب الدهاء صامتين حسب التقليد، مما لا يعطي صورة دقيقة كاملة للبانوراما. كنت شاهداً على ما أداه الرجال في تلك الفترة، إذ كنت اقوم بمسؤوليتيْ وزارة الدفاع ورئاسة المخابرات العامة في الوقت نفسه بعد هزيمة 1967، ما يمكنني من قول الكثير والسكوت عن الكثير لأن الاسرار التي تمس الامن القومي ليست ملكي. بداية إن الحروب لا تبدأ فجأة باطلاق الصواريخ والمدافع وانطلاق اسراب الطائرات ولا برجال المشاة، الذين يقتربون من دفاعات العدو ليقاتلوه بالبنادق والرشاشات والقنابل اليدوية والسنكيات، بل تلزمها اعمال كثيرة يقوم بها رجال ونساء يخوضون حرب الدهاء في صمت. ويتوقف مصير الحروب على مدى دقة المعلومات المتوافرة التي تبنى عليها الخطط والقرارات وعلى الصدقية المتبادلة بين تصورات اجهزة المخابرات واصحاب القرار. ففي الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، سربت المخابرات الالمانية "الخطة بارباروسا"، وهي خطة هجوم المانيا على روسيا، إلى المخابرات الروسية، الا ان ستالين لم يصدق ما تقوله الوثائق، وكلفه ذلك الكثير فضُربت طائراته على الارض وتوغلت الجحافل الالمانية في عمق روسيا، ولم يتمكن الروس من اعادة السيطرة على الموقف إلا بعد وقت طويل وتكبدوا خسائر فادحة. ولعلنا نذكر أيضاً ان رئيس المخابرات الاسرائيلية - رغماً عما كان يحدث من شواهد - ظل يؤكد لجيش الدفاع الاسرائيلي ان العرب لن يقوموا بأي هجوم، حتى صباح 6 تشرين الاول اكتوبر حينما اتصل به احد المصادر الموثوق منها ليؤكد له قيام الهجوم بعد ظهر ذلك اليوم. وكان ذلك الخطأ الفادح احدى القضايا التي حققت فيها لجنة القاضي أغرانات لمعرفة اسباب سوء أداء الجيش الاسرائيلي في الساعات الاولى من الحرب. وكان أداء المخابرات العربية قبل قيام حرب 1967 معيباً، إذ أعطت معلومات ناقصة، بل خاطئة، عن قوات العدو وقدرته القتالية وأساليب قتاله ونياته. وعلى سبيل المثال فإنه في المؤتمر الخطير الذي عقده الرئيس جمال عبدالناصر مع قادة القوات المسلحة يوم 2/6/1967 أكد بناء على تقديره للموقف ان الهجوم الاسرائيلي سوف يحدث يوم 5/6/1967 بضربة جوية تفتتح بها المعارك. إلا أنه في الوقت نفسه اصدرت المخابرات العسكرية تقريرها الكتابي اليومي بأن اسرائيل لن تقْدم على عمل عسكري هجومي وان الصلابة العربية الراهنة ستجبره على ان يقدر العواقب المختلفة المترتبة على اندلاع الحرب وقام المشير عبدالحكيم عامر - لعدم ثقته في ما قاله الرئيس - باذاعة تقرير المخابرات العسكرية على القوات، بل قام بزيارة الجبهة صباح 5/6/1967، لكنه لم يكمل زيارته بل رجع مسرعاً من حيث اتى حينما شاهد الطائرات الاسرائيلية وهي تقوم بهجومها على المطارات المصرية تنفيذا لخطة "كولويب"، وضاعفت تقديرات المخابرات العسكرية في اخطائها حينما قررت ان مدى الطائرات الاسرائيلية لا يمكن ان يتجاوز قناة السويس إذ كان لهذا التقدير الفني الخاطئ تأثيره الفادح على التوزيع الاستراتيجي للقوات الجوية. ولم يكن فشل المخابرات العامة يقل عن فشل المخابرات العسكرية، إذ كان اهتمامها مركزا في نواحٍٍ اخرى كثيرة ذكرتها في كتابي "الفرص الضائعة"، وذِكرها الآن مرة اخرى يبعدنا عن الموضوع الذي نحن بصدده. تقوم اجهزة المخابرات عموما بواجبات رئيسية ثلاثة: جمع المعلومات عن الأصدقاء والأعداء بوسائل مختلفة، من ضمنها اعمال التجسس Espionag، منع تسرب المعلومات ومن ضمنها اعمال التجسس المضاد Counter - espionpso، وأخيراً الواجبات والاعمال الخاصة. وتسمى بالاعمال القذرة DIRTY WORK مثل تزييف العملة او تزوير الوثائق أو تدمير المنشآت واعمال التهريب او فتح الخزائن المشفرة. وهذه الاعمال شرعية في حقل المخابرات يقدم عليها الرجال بقلوب مؤمنة كما يقدم الجندي في القوات المسلحة لقتل عدوه في بسالة وشجاعة تجعل من يقتل اكثر يحصل على الأوسمة. وإذا كانت القوات المسلحة تقاتل فقط في وقت الحرب، فإن رجال المخابرات يقاتلون في السلم والحرب على حد سواء، واذا كانت وحدات القوات المسلحة تعلن عن اعمالها ومعاركها، فإن اعمال المخابرات تتم في الظلام وتكون دائما طي الكتمان. والقانون الدولي ينظم عملية التعامل مع الاسرى ولكن رجل المخابرات لا ينال مثل هذا الحظ إذا لاقى المصير نفسه بل ربما تتخلى عنه دولته إذا لزم الأمر وهو يعرف ذلك ويعقله. وخدمة للتخطيط الجاري للمعركة المقبلة، قدمت المخابرات العامة المصرية تقديرات موقف وتقارير معلومات عن التوازن العسكري وتطوره حسب التسلح واستيعابه في اعمال التدريب المختلفة: الاغراض والاهداف الاستراتيجية وكيفية الدفاع عنها والحصول على صور عنها، القوة البشرية، المواصلات بما في ذلك السكك الحديد والموانئ والجسور والمطارات في أنحاء اسرائيل، الصناعات المهمة ومصادر الطاقة التي تغذيها، المعسكرات وأماكن الحشد، المناورات بالجنود وتدريب مراكز رئاساتها، صناعاتها الحربية وصفقات استيرادها من معدات وأسلحة من خلال مراقبة موانئ ومطارات الشحن الخارجية، قدراته النووية، عاداتها وأعيادها. وتم توقيع هذه المعلومات في غرف الخرائط وعمل ماكيتات وكذلك الميكروفيلم وتوزيعها على من يخصهم الأمر. ونتيجة للمعلومات المتيسرة، وتتبع مناورات العدو عن طريق المشاهدة والتنصت على شبكاته اللاسلكية وكسر الشفرة التي يستخدمها في رسالاته، أمكن وضع تصور كامل لإجراءاته في حال عبورنا للقناة. ومن الدخول في تفاصيل هذا التصور، فإن العدو استقر على القيام بهجمات تعطيلية مضادة اذا نجح العبور لإحداث أكبر خسائر ممكنة في القوات المهاجمة مع القيام بهجمات جوية مركزة بتدمير نقاط العبور كافة في الضفتين الشرقية والغربية، وكذلك الجسور والقواعد الادارية في الضفة الغربية، ثم القيام بهجوم مضاد شامل في اتجاه المحورين الجنوبي والاوسط واستغلال النجاح بالعبور الى الضفة الغربية. بل حصلنا على معلومات أكيدة بأن عبوره - إن تم - سيكون في منطقة جنوب الاسماعيلية ثم الانتشار في الضفة الغربية في اتجاه بورسعيد شمالا وفي اتجاه السويسجنوباً مع دفع وحدات خفيفة لتهديد القاهرة واستخدام ذلك في أغراض الحرب النفسية والدعاوية. كان هناك رأي بايقاف الهجوم بإغراق قواتنا في القناة أثناء عبورها، أو على اكثر تقدير على الشاطئ الشرقي لمنع انشائها رؤوس الجسور، وكان هناك رأي آخر يرى تحرك قواتنا تتقدم حتى يتم تورطها في الشرق ثم تقوم القوات الاسرائيلية بتطويقها. وأجريت دراسات عن الأعياد اليهودية على مدار السنة حتى يمكن استغلالها في مراحل التخطيط أو لخدمة الاعمال الفدائية. وشملت الدراسة كثيرا من الأعياد مثل عيد الفصح، الاسابيع، المظال، رأس السنة العبرية، يوم الغفران أو كيبور، الأضواء، البوريم وأخيرا لاج بعدمار. ونظراً لاختلاف تواريخ الاعياد من عام الى آخر وفقاً للتقويم القائم، تم إعطاء فكرة عن التقويم اليهودي في جداول توضح تواريخ هذه الاعياد حتى عام 1992 وعلى سبيل المثال حدد تقويم الاعياد اليهودية عام 1973 - وهو العام الذي حدثت فيه الحرب - كالآتي: عيد الفصح 17/4، عيد المظال 11/10، بوريم 18/3، الاسابيع 6/6، رأس السنة العبرية 27/10، كيبور أو عيد الغفران أو يوم الكفاءة 6/10. وحرصت الدراسة على توضيح عادات اليهود وحياتهم اليومية في فترة كل عيد بما في ذلك "عيد كيبور". وتركزت الدراسات على القوة الجوية الاسرائيلية، وقدر المجهود بما مجموعه 2166 طلعة/ يوم لمسافة تتراوح بين 350 - 800 كيلومتر. وحددت الدراسات قواعد العدو الجوية الرئيسية، مثل راحات دافتيد وتل نوف وحاشوم وحاشريم واللد وتل ابيب وحيفا، علاوة على9 مطارات أخرى، 17 ارضي نزول، بالاضافة الى مطارات سيناءوالضفة الغربية والجولان التي تحت الاحتلال. كما حددت اماكن الصواريخ ومحطات الرادار وتوزيعها على موانئ حيفا وكسيون وعكا واشدود وايلات. وفي عملية غير مسبوقة ونظراً للسيادة الجوية للعدو في تلك الفترة تم استخدام العدسات لتصوير كل دشم خط بارليف وتطور بنائها لأنه بني على فترات متقطعة، وكنا نلح في التعامل مع الخط، قبل ان يكتمل باستخدام قضبان حديد نزعتها اسرائيل من خط سكة حديد القنطرة - العريش ولو تم ذلك بالاضافة الى التدخل بنيراننا لهدم الساتر الترابي الذي اقيم على حافة الضفة الشرقية للقناة، ولسهّل ذلك كثيراً على القوات عبورها القناة. ومن الوسائل الاخرى للحصول على معلومات، استخدام المصادر المكشوفة من كتب ووثائق ومحاضرات واعلانات، بل التداخل على شبكة المواصلات اثناء الاشتباكات التي حدثت اثناء حرب الاستنزاف وكنا نخرج بصورة كاملة عن اصدار الاوامر وطلب المساعدات او وسائل نقل الجرحى وهروب الوحدات من مواقعها نتيجة لكثافة نيران قواتنا، ونظرا لأن الاشتباكات كانت يومية اثناء حرب الاستنزاف فكان يصدر تقرير يومي عن نتائج تلك الاشباكات وكان يتضمن حجم خسائر العدو وتدمير مخازن ذخيرته وتغيير قواته في الجبهة بين وقت وآخر، وتم تبادل المعلومات مع اجهزة المخابرات الاخرى، مثل المخابرات السوفياتية KGB والمخابرات المركزية الاميركية CIA أفادت هذه القناة كثيرا عند تبادل المعلومات وهي القناة نفسها التي استخدمها الرئيس السادات بفارق كبير، إذ بدأت هذه القناة بعد حرب 1967 بين جهاز المخابرات العامة المصرية وبين المخابرات المركزية لتبادل المعلومات، لكن الرئيس السادات حولها الى قناة بين رئاسة الجمهورية المصرية وبين البيت الابيض لادارة العلاقات بين البلدين، خصوصاً أيام حرب اكتوبر. إلى جانب الحصول على المعلومات، بذلت جهود مضنية لمنع العدو من الحصول علىها. وللاسف فان بعض اجهزة المخابرات من دول اخرى غير اسرائيل انتهزت فرصة انكشاف مصر بعد الهزيمة وباشرت نشاطات ضارة بأمن مصر، وتحولت شوارع القاهرة والاسكندرية الى مسرح لعمليات رهيبة لايقاف هذه الانشطة بطرق حاسمة ونظمت حملات توعية بواسطة اجهزة الاعلام، خصوصاً التلفزيون عن طريق نشر نصائح قصيرة، ونظمت دورات تدريبية لرؤساء الشركات وللمسؤولين في الوزارات للطريقة التي يؤمنون بها المباني والوثائق. وانشئ الجيش الشعبي من رجال المصانع ومحطات الطاقة والمواصلات لحماية المنشآت ولاعتراض "طويلي الانوف" ممن يتدخلون في غير ما يعنيهم. وبذلك أصحبت الجمهورية كلها قاعدة للقتال، لا فرق بين الجبهات وبين العمق. وسقط كثير من خلايا التجسس في يد اجهزة مقاومة الجواسيس. وكانت الاشتباكات تدور على الجبهة بالمدفعية والطيران والاسلحة الصغيرة، وكانت مواجهات اخرى تدور في العمق، نهاراً وليلاً، في صمت وقسوة وحسم لتحقيق الامن القومي. وخاض الرجال والنساء معاركهم في تضحية متضمنها الملفات الموجودة في الخزائن. ولا بد من التحدث عن أحد الاعمال الايجابية التي تمت في تلك الفترة بضرب الحفار "كينتغ" KENTING في ميناء ابيدجان بعد فشل اغراقه في ميناء داكار. ونكتفي بما نشرته صحيفة "الاهرام" القاهرية يوم الاثنين 23/3/1970 "خرجت من ابيدجان اول امس انباء عن حادث نسف الحفار الذي استقدمته اسرائيل للبحث عن البترول في خليج السويس وقد حدثت المحاولة يوم 18/3/1970 وتم تدمير اجزاء كثيرة منه خصوصا القاعدة والبرج وقد نقلت الاخبار من ابيدجان عاصمة ساحل العاج وكالة الانباء الفرنسية ثم نقلت الى لندن وعلم ايضا ان القاطرة الهولندية جاكوب - فون - ايمز - ايري، التي تجر الحفار منذ خروجه من احد الموانيء الكندية وفي الاغلب ميناء اوتاوا قد سحبته منذ ايام قليلة الى احد الموانيء الافريقية لاصلاحه". ثم كررت "الاهرام" نشر الخبر يوم 5/6/1970 فضلاً عن وكالات الانباء فذكرت "اعلنت شركة مينج الكندية للبترول رسمياً إلغاء مشروع استخدام الحفار كينج التابع لها للتنقيب عن البترول في خليج السويس لحساب اسرائيل بعد تخريبه بواسطة الكوماندوز المصريين". وأنعم الرئيس عبدالناصر على افراد العملية بالنياشين التي وزعها قائد العملية عليهم في احدى حجرات المخابرات العامة التي كان يجري ترميمها. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.