المملكة تختتم مشاركتها في الدورة الوزارية للتعاون الاقتصادي والتجاري "الكومسيك"    ترمب يوجه كلمة عاطفية للأميركيين في اللحظات الأخيرة    المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي يسجل 2457 جريمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين خلال أسبوع    خسائرها تتجاوز 4 مليارات دولار.. الاحتلال الإسرائيلي يمحو 37 قرية جنوبية    شتاء طنطورة يعود للعُلا في ديسمبر    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    "إنها طيبة".. خريطة تبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بالمنطقة    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    إشكالية نقد الصحوة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    إعادة نشر !    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    «DNA» آخر في الأهلي    سلوكيات خاطئة في السينما    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا فعل الناقد فاروق عبدالقادر بيوسف إدريس ؟. أليست المراوغة في البحث عن اليقين السياسي عوض الإبداع ؟
نشر في الحياة يوم 23 - 10 - 1998

في فترة واحدة تقريباً، صدرت للقاصّ المصري الراحل يوسف إدريس 1927-1991 مختارات من مجموعاته القصصية، في إطار "كتاب في جريدة" الذي تنشره منظمة اليونسكو، شهرياً، بعنوان "جمهورية فرحات وقصص اخرى"، آب 1998، وصدر عنه كتاب للناقد المصري فاروق عبدالقادر بعنوان "البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس"، في إطار سلسلة "كتاب الهلال" في مصر، آب 98. والأرجح ان التزامن في هذين الاصدارين جاء بمحض المصادفة... لكن تسليط الضوء على إبداع يوسف إدريس، لا يقلّ أهمية عن تسليط الضوء على نظرة نقدية له، بل لعلّ إبداعه القصصي بالذات، هو الذي سيقدّم المادة الحيوية لمناقشة النظرة النقدية تلك، وللكشف عن قوتها أو هشاشتها، سيما انها تحتمل ما يسمّى "نقد النقد"، وان قصص إدريس بالذات، تحتمل قراءات متعددة، أو على الاقل، قراءات مغايرة لقراءة عبدالقادر.
ويخلط فاروق عبدالقادر في كتابه عن يوسف ادريس، بين الجوهر الإبداعي لقصصه، أو يقين هذه القصص وحقيقتها، ومواقفه السياسية من رجالات الحكم الذين توالوا على السلطة أثناء حياته، في عصري عبدالناصر والسادات، كما تجلّت من خلال تحرّكه العملي وعلاقاته السياسية التنظيمية والشخصية، فضلاً عن مقالاته التي كتبها في الصحف، خاصة في "الاهرام" و"الأحرار"... فقد رثى ادريس عبدالناصر في الاهرام رثاءً مرّاً ومتفجعاً، ووجّه في جريدة الاحرار الى أنور السادات مقالاً فيه شكوى وعتاب بعنوان "أشكو إليك منك" بعد سلسلة مقالات كتبها بعنوان "البحث عن السادات" عام 83، مما أغاظ السادات بعد علاقة سابقة طيبة بين الرجلين، فسلّط عليه شخصياً لسانه من دون ان يسميه، بل كنّاه "بالزبون"، كما سلّط عليه الاجهزة الرسمية.
ويظهر لنا، من بدايات الفصل الاول من كتاب عبدالقادر، المسمّى "نهايات وبدايات / جدل الفرد والجماعة"، ان اليقين الذي يبحث عنه الناقد في قصص إدريس، هو اليقين السياسي أولاً، خاصة في عصر عبدالناصر بالذات، وشخصه، وينعته بالمراوغ، لانه لم ينكشف عن عدائية معلنة للعصر والرجل كما ينبغي ان يكون عليه يوسف ادريس برأي فاروق عبدالقادر، وكأنه يسعى الى اسقاط رأيه هو أي رأي عبدالقادر على قصص يوسف ادريس، فيؤولها التأويل المناسب لرأيه، ويرغم جسدها الفني والانساني الرائع - على ارتداء ثيابه السياسية التي يفصلها بمقصّ لا يخلو من العسف والشطط. هذا في حين ان النماذج القصصية والشخصيات التي يتكىء عليها عبدالقادر، تحتمل تأويلات اخرى هي أبعد ما تكون عن تأويلاته السياسية، فيكتب مثلاً: "إن قصصاً مثل "الخدعة" و"الرحلة" و"العملية الكبرى" و"حامل المراسي" لا يمكن فهمها الا في ضوء انها صرخات احتجاج ضد تسلّط هذا النظام وصاحبه يعني نظام عبدالناصر وصاحبه جمال عبدالناصر بالذات وقهره للناس واستبداده وتفرده باتخاذ القرارات الخطيرة التي يمكن ان تؤدي بالسيدة صاحبة "العملية الكبرى" الى النزف حتى الموت. هذا من ناحية، من الناحية الاخرى والكلام ما زال لعبدالقادر كتب يوسف إدريس عقب رحيل عبدالناصر مباشرة في الاهرام يناجي الراحل: "يا أبانا الذي في الارض، يا صدرنا الكبير الحنون" ويقول "أصبحت الدنيا لأول مرة بلا عبدالناصر، ونحن لم نتعوّد ابداً ان نتنفّس هواءً لا يتنفسه هو، ولا ان ننام الا ونحن نحسّ انه هناك في كوبري القبّة، ولا ان نستقبل الصباح الا على صورة له وابتسامة".
حسناً.. هذا هو أذن اليقين المراوغ كما يرى اليه عبدالقادر أو يفسره أو يسقط تفسيره على يوسف إدريس: انه أي ادريس يرفض عبدالناصر ويمقته كما ينبغي له ويعتبره فاشلاً بل قاتلاً كالطبيب البارع الفنان الذي قتل مريضته لاثبات فنّه وبراعته كما في قصته العملية الكبرى، ومع ذلك فهو يرثيه بمثل ما رثاه به...
لكنّ المراوغة على اشدها تظهر في موقف عبدالقادر بالذات، وفي مقياسه النقدي، حين يزعم، من البداية ان "استنطاق أعمال يوسف ادريس الإبداعية وحدها، هو العمل الوحيد المجدي، فهذه الاعمال ذاتها هي كل ما بقي لنا منه"... تراه يضع هذه المقدمة الجليلة العادلة في بداية كتابه، ليعارضها في معظم فصول الكتاب، حيث يسود السرْد التاريخي والتحليل الايديولوجي عليه، بل الإسقاط التاريخي والايديولوجي على القصص والشخصيات، وقليلاً ما يتمّ ذاك الغوص المبدع لاستخراج لآلىء النصوص، مثلما هي في قصص ادريس، عارية ونابضة وحرّة، ودامية بجمالها الوحشي، ببكارتها التي لا تحدّ، بنبضها الاعمق من السياسة والايديولوجيا، بتناقضاتها ومفاجآتها، بسردها الحي البشري اللابلاغي واللاتبشيري، بكوابيسها ومتعها... وبكل ما تحفل به هذه القصص من غوص وتحليق، تشريح وتأمل، عذاب ومتع لا نهائية... ويقين يوسف ادريس هنا حتماً غير مراوغ، هو ابداعي جميل أخّاذ داخل في الصدق وملتاث به بل هو مجنون اللحظات الانسانية الحقيقية. وليس في الامكان فصل مرثيته لعبدالناصر عن مثل هذا الصدق... فناصر جزء واحد من عالم ادريس، وليس العكس، بل التاريخ المصري برمته، الذي عاش فيه ادريس، جزء من عالمه الابداعي الذي يغوص أبعد وأبعد، وأشمل وأعمق...
يتكىء فاروق عبدالقادر لإظهار وجهة نظره تلك، لا على قصص يوسف ادريس وحدها كما قدّم - وكان الأجدر البقاء فيها - بل على تفاصيل وأحداث ووقائع ومقالات سياسية وتاريخية، ليوسف إدريس بالذات، أو لآخرين أرّخوا للفترة السياسية التي عاشتها مصر في العصرين الناصري والساداتي، من ثورة يوليو 52 الى التأميم فتجربة الوحدة مع سوية فإلغاء الاحزاب و معاناة الحزب الشيوعي المصري من جراء ذلك، فهزيمة عام 67، فموت عبدالناصر، فصعود السادات.. والمسرد التاريخي والسياسي هذا يحتل حيزاً كبيراً في كتاب عبدالقادر، ويتكىء فيه على مظان في الصحافة والكتب، خاصة كتب من يسميهم "مؤرخي نظام يوليو"، مثل احمد حمروش وطارق البشري. والمهم في هذا السرد، هو نقد التجربة الناصرية، والنظر الى نظام ناصر على انه "نظام مستبد باطش يضرب خصومه - وقد يكونون متفقين من حيث الاهداف - دون رحمة، ويخنق كل رأي معارض، ويبتعد عن نبض الناس معتمداً في حكمهم وتقرير شؤونهم على أجهزة الأمن والمخابرات ويفرض طابعه العسكري الغاشم على كل مناحي الحياة" ص115 من "البحث عن اليقين المراوغ. وحين يأتي الى تحليل قصص ادريس، تجده شبيهاً بالقاضي الذي يصدر الحكم قبل سماع المتهم والشهود، فيستحضر الشهود ويدبّر الشهادات ويؤولها لتنسجم مع الحكم المسبق.. وهكذا تصغر القصص وتضؤل دلالاتها، بل تستغيث. ففي قصة "الخدعة" لإدريس، على سبيل المثال، وهي قصة نشرها في الاهرام في ابريل نيسان 69، يقول عبدالقادر انه "تردد وقتها ان كثيرين قد زعموا ان رأس الجمل المشقوقة القبيحة التي تطارد البطل في كل مكان، حتى تقف بينه وبين امرأته في الفراش، انما هي وجه عبدالناصر، بل مضى بعضهم الى الربط بين رأس الجمل ورأس جمال... الخ". والقصة في حقيقتها أبعد من هذا التأويل الوحيد الجانب الملغوم، الذي لا يملك عبدالقادر الا ان ينفيه أو يستبعده، لكنه يقدّم "ما تردد في وقتها" على تفسيره.. وما الذي تردد في وقتها؟ ومن ردده؟ وأية حجة هذه تساق في معرض تأويل هذه القصة لادريس وما قيمتها يا ترى؟. ثمّ ما هو هذا "اللغط المكتوم" الذي أثارته القصة حين نشرها في الاهرام بتعبير عبدالقادر؟ سيكون من الظلم الفادح تفسير إبداع يوسف إدريس، العميق، والشامل، والنابض بحيويته، "بما تردد" و"باللغط المكتوم". فإدريس يورد ما تراءى لبطل قصته "الخدعة" على الشكل التالي: "رأيت بجوار صورتي بينما كان ينظر الى وجهه في نبع ماء المهتزّة اهتزاز درجات الابيض والاسود فيها، واهتزاز القمر، صورة رأس آخر، رأس طويل ممتد الى الأمام، ينتهي بشقّ عرضي واسع سعةً لا حد لها، وكأنما لا يكفي هذا، فأيضاً شقّ بالطول، رأس جمل لا بدّ... وكان واضحاً ان زملاءه في المكتب من زمن يعانون نفس الشعور وان رأس الجمل يظهر لهم في كل مكان وأي ساعة. لكن السؤال: أهو نفس الرأس يظهر للجميع؟ أم ان لكل منا رأس جمله الخاص؟ كما يقولون في الأساطير ان لكل منا أخته تحت الارض، أو فوقها، أو ككتاب يوم القيامة الذي يعلق في عنقه... ولا يفعل هذا الرأس شيئاً سوى ان ينظر الى أمامه يتطلع ولا يتحرك لا يغضب ولا يرضى لا يحفز ولا يثبط لا يفعل شيئاً ابداً الا ان يطلّ، مجرّد ان يطلّ".
رماد الإحباط والفشل
وفاروق عبدالقادر، حيث يستبعد الإشاعة في اسقاط رأس الجمل على رأس جمال، الا ان يثبتها. فواضح من سياق النص، ان رأس الجمل" هو الرأس الآخر ولنعتبره القبيح لكل انسان لا في مصر وحدها بل في تاريخ البشرية... لكل انسان بالمطلق، وقد فسّره ادريس في النص عينه "بالقرين"، وعممه فلم يحصره بفئة، ونحن نتفق مع عبدالقادر بقوله "الأدق ان هذا هو وجهنا، نحن، القبيح، انه كل ما فعلناه وأنكرناه... كل ما طفحت به اعماق النفس من رماد الإحباط والفشل والبحث المحموم عن يقين مراوغ خلّب، وإن جاز ان نضيف شيئاً له دلالة سياسية ما، فقد نقول انه وجه النظام القبيح بالمعنى الذي سبقت اليه الإشارة" ص128. ان ما نعترض عليه هو إقحام "وجه النظام القبيح" حتى ولو كان قبيحاً في مثل هذا التأويل. فهذا الإقحام يضعف القوة الايحائية والطاقة الابداعية ذات الإشعاعات المترامية والمتكسرة ليوسف إدريس. فإدريس اصلاً ليس بكاتب قصة ايديولوجي، والتبشير أبعد ما تكون عنه، وهو ايضاً ليس مباشراً وذا بعد واحد، لا في اشخاصه، ولا في حركاته القصصية. ثم من قال انه يتفق مع عبدالقادر على "النظام القبيح"؟ فالأسلم كان تجاه هذه القصة، عدم ايراد "الشائعة"، و"اللفظ المكتوم" و"ما تردد"، تجاه تحليل هذه القصة، وتلافي الجزء الثاني السياسي من تفسير عبدالقادر. لكي لا يضيع التأويل الأكثر قرباً من ابداع ادريس، بين الشائعة والسياسة.
ومثل ذلك نستطيع ملاحظته في قصة "العملية الكبرى"، وهي جوهرية الرائعة بلا حدود... وإرغام أنفها، من جديد، في التفسير السياسي المباشر، بل في الاسقاط السياسي المباشر، هو قتل ابداعي لها. ويسلك فاروق عبدالقادر مع هذه القصة ايضاً سلوكه مع قصة "الخدعة"، فيكتب انه "رأى كثيرون من قرائها وجه عبدالناصر يتخايل لهم وراء وجه الدكتور أدهم، وكنت الاوصاف التي يصف بها الكاتب الجراح الكبير هي التي تقودهم في هذا السبيل" ص124، ثم يعود ليتبنى "ما رآه كثيرون من قرائها" في نظرته هو للقصة، لا من خلال تحليل عالمها الابداعي الداخلي وتقنياتها وشخصياتها، بل من خلال تعليق سياسي يورده على الصورة التالية: "في ضوء ما تبين بعد كارثة 67 من ان النظام لم تكن لديه خطة للحرب ضد اسرائيل، وانه كان يقامر بالوقوف على حافتها، ودفع العالم كله الى محاولة تجنبها، بهدف تحقيق كسب سياسي، على غرار ما حدث في 56،،، أقول في ضوء هذا كله والكلام لعبدالقادر لا يصبح وجه عبدالناصر بعيداً عن وجه الدكتور أدهم ويبقى قطع الشريان الرئيسي في الجسد هو ما حدث في 67، ويبقى الأمل في الحياة التي تتدفق عبر الجسدين الشابين. اللذين يمارسان لذة الخلق في حضرة الموت" ص126، وكان عبدالقادر، من بداية الكتاب، أسّس "مراوغة يقين يوسف ادريس"، على مثل هذا التفسير الآلي الإسقاطي على شخصيات ادريس في قصصه، وقال فيها بصورة اكثر وضوحاً انه "لا يمكن فهمها الا في ضوء انها صرخات احتجاج ضد تسلّط هذا النظام، وصاحبه وقهره للناس واستبداده وتفرده باتخاذ القرارات الخطيرة... الخ ص8.
وما قلناه في تفسير "الخدعة" نقوله هنا ايضاً. فالأداة السياسية الايديولوجية التاريخية التي استعملها عبدالقادر لتفسير أو تحليل قصص يوسف إدريس، هي أداة شديدة الخطورة من حيث انها تقسِر الجسد الإبداعي الحي لهذه القصص على الدخول في ثوب من معدن، فاذا كانت يد القصة أطول تمّ قصها لتناسب الثوب، وإذا كانت عينها أوسع، ثمّ غمّضها وغضّها، واذا كان أنفها أطول، ثم جدعه... وأكثر من ذلك وأدهى: إذا كان نبضها أجمل وأشمل، ثم ضبطه بما يشبه "الريموت كونترول" السياسي.
لذا كان لا بدّ من قراءة قصص إدريس قبل قراءة نقده. فقصّة "العملية الكبرى" على سبيل المثال، قصة ذات تفاصيل وسرد سحريين من شدة جاذبية السياق القصصي، والمشهد القصصي، والشخصيات القصصية... وهي تبدأ بغرفة طبية، تضم طبيباً مساعداً هو الدكتور عبدالرؤوف، الى جانب ممرضّة تدعى "انشراح"، ومهمتها مراقبة ومصاحبة سيدة ممددة على السرير، وهي تلفظ آخر انفاسها، بعد عملية جراحية معقّدة، هي "العملية الكبرى"، كان قد أجراها لها الدكتور أدهم، ولم تنجح، فغدت المريضة محكومة بالموت المحتم... وهكذا كان لابد من انتظار موتها ومراقبته في الغرفة الطبية.
التشويق الذي يسلكه ادريس يرد من خلال السياق والسرد والتفاصيل، والعمق كائن في أصل شخصيات القصة، وهي هنا ثلاث: الشخصية الاساس: الدكتور أدهم، والطبيب المساعد المعجب بالدكتور أدهم، السائر على خطاه، الدكتور عبدالرؤوف، والممرضة "انشراح" الجميلة الممتلئة، المشاكسة أو المواربة، التي لا يسمح مظهرها أاحد حتى بالقاء التحية عليها.. وكان من نصيب الدكتور عبدالرؤوف، ان ينضمّ اليها في غرفة الموت، هذه، لمراقبة المريضة المحتضرة بعد العملية. الشخصية الاكثر خصوصية وجذباً هو الدكتور أدهم. ومن هو في القصة الدكتور أدهم؟ انه ليس طبيباً كسائر الاطباء. هو المتفرّد، عاشق الطب والجراحة، بل ساحر الطب والجراحة، سماه زملاؤه "مجنون الجراحة"، واختلط فيه الشغف بالمهنة، وتحوّل كل شيء بين يديه، من المرض الى الآلات و الاجهزة... الى ما يشبه أوركسترا أو آلات موسيقية. وتحوّل هو في عمله الى ما يشبه المايسترو" هنا يصبح الطب لا علماً محض علم بل هو فنّ... ولعله فنّ اولاً.. ويصبح التشريح عملاً شعرياً أو موسيقياً أو قصصياً ومسرحياً: "وليس مصادفة انهم يسمون حجرة العمليات بمسرح العمليات. فالجراح في هذا المسرح هو الارادة الكبرى والعقل المفكر والحاضرون جميعاً من بشر أو أجهزة أو عقاقير ليسوا سوى أدوات في يد تلك الإرادة تصنع بهم الشفاء".
وهكذا يختلط لدى الدكتور أدهم أو فيه دور الجراح بدور الساحر القدير، "يدخل المريض يتلوّى من شدة الألم أو من اليأس، وبعد ساعة يخرج وقد شفي تماماً وانتهى ألمه... ومكان العمليات، بصمتِهِ القُدْسي تتحول فيه الكلمات الى همسات تختلط بالفحيح الصادر من أجهزة التعقيم، وتنسجم مع الحركة الصوتية المتتابعة لتنفّس المريض من خلال جهاز التخدير، بالسكون المضمخ بروائح اليوسول واليود والأثير، السكون الحي النابض بدق القلب وهو يتحوّل الى اشارات موسيقية ضوئية.. السكون الذي يتنفّس تنفساً خاشعاً منتظماً. هنا اكتشف الجراحة كعلم وسحر واكتشف ان ها هنا يوجد أمله ومن الآن سيصير هدفه من الحياة". والعملية الكبرى التي أجراها الدكتور أدهم، مدفوعاً بسحره وشغفه، هي لسيدة جاءت الى عيادته بشكوى بسيطة: إحساس بالتعب السريع إذا مشت طويلاً. وبقليل من الجسّ والفحص والنظر الثاقب شخّص الدكتور أدهم المرض: "ورم خبيث في العمود الفقري. وعلى وجه الدقة سرطان في الغضروف مكانه بين الفقرتين الرابعة والخامسة للبطن".
وكالعادة ايضاً، لم يكن الدكتور أدهم ليطلب الفحوص والتحاليل، لكي يعدّل تشخيصه للمرض، بل لكي يدعمه... الا انه في هذه العملية أخفق... لم يكتشف الورم الخبيث الذي خمّنه، وشقّ الشريان الأبهر للمريضة الممددة على طاولة العمليات... وحاول الاستدراك فلم يفلح.. ولم يبقَ أمام المريضة سوى الموت... وهكذا لم يفلح سحر الدكتور أدهم ولا علمه ولا فنه، أمام ما كشفه له الواقع في "العملية الكبرى". هذا هو جوهر القصة...
مشهد الموت
ويظهر ان شخصيتي كل من الطبيب المساعد الدكتور عبدالرؤوف والممرضة الجميلة المتمنّعة المغلقة "انشراح" أوجدهما يوسف ادريس للمشهد التالي الذي دمجه بعبقريته في مشهد الموت، وهو ذاك الوصال الجسدي الحرّ الضعيف المفاجىء الذي تمّ بينهما على طاولة التشريح المجاورة لسرير الموت. ولم يخف ادريس هدفه من هذا الترتيب القصصي. فهو عادةً ما يشرد في قصصه من السرد والوصف الى ما يشبه التأمل الفلسفي أوالتفكّر.. وربما جاء ذلك على لسان شخصياته. وهو يقول انه في هذا العمل كان "يخرج الميت من الحي والحي من الميت"، وكان قد بدأ بالتمهيد لهذا الجمع العجيب بين مشهد مريضة تلفظ آخر أنفاسها، بوصف دقيق لتنفسها وجحوظ عينيها، وبين رجل وامرأة الى جانبها، ينغمسان فجأة وبآلية قاهرة، في وصال جسدي حار ومجنون.. مهّد لذلك بما انتاب الدكتور عبدالرؤوف من موجة استخفاف لدى إخفاق العملية الكبرى، والاستخفاف بكل شيء، والرغبة في الضحك حتى على أنف الموت.
نقول ان الاحتمال الذي أورده فاروق عبدالقادر بعبارات اليقين والحماسة والاتهام، في إسقاط شخصية عبدالناصر على شخصية الدكتور أدهم، هو أضعف الاحتمالات حتى ولو كان وارداً. انه يُضعف من عالم القصة المذكورة وايحاءاتها وشمولها، بل هو ينمّط نموذجها الفذّ "الجرّاح الساحر / قائد الأوركسترا"، والذي يمكن ان تجده، لا في السياسي حصراً، ولا في ناصر بالذات، بل في بائع لعب الاطفال في الشارع، أو حتى بائع الخضار، أو عامل المقهى، أو الفلاح في حقله.. أو في أي موقع يتحوّل فيه العلم والعمل الى فنّ... بل مغامرة.. وقد تفشل.. فلماذا يكون الايماء هنا سياسياً هزيلاً ولا يكون بشرياً غنياً؟ أي لماذا لا يكون ناصر والسياسة برمتها، والمجتمع والبشرية جزءاً من عالم يوسف إدريس العميق والمتنوّع، بدلاً من ان يعتبر هو وشخصياته وقصصه جزءاً من حيز سياسي تاريخي محدد ومعلوم وإن اختلفت فيه الآراء؟.
والتحديق في الشخصيات المتنوّعة والغنية وفي التقنيات القصصية التي استخدمها ادريس تظهر ما قصدنا اليه. فهو غالباً ما يحفر في شخصياته عكس الظاهر.. وينبش عن الجزء الانساني الضامر في الكائن، ويعطي لأبطاله ادواراً غير منتظرة... أو لنقل أدواراً غير تقليدية، أدواراً ابداعية، حتى ولو كانوا في أدنى السلّم الاجتماعي أو السياسي... كالشاويش فرحات، حارس نظارة التوقيف في "جمهورية فرحات"، ففي فرحات أكثر من شخص: فيه الروائي المتخيّل، وحارس السجن القائم بعمله بدقة العارف بتناقضاته، الكاره له، وفيه المصلح الاجتماعي صاحب المخيلة والشبيه "بجندي يحلم بالزنابق البيضاء" - بعبارة محمود درويش، وفيه حال التناقض والانسجام حقاً بين مجتمع الخارج المصري ومجتمع الفكرة أو التصور أو الحكاية...
وفي لغة "الآي آي" إلحاح لا مثيل له على وصف الألم وعظمته ويقينه والانحياز اليه من خلال حال فهمي المريض بسرطان المثانة. وسوف يكون أي كلام على هذه النماذج، أقل من الاحتكام المباشر بها في قصص ادريس. فهو قادر من خلال تقنيات الوصف والإلحاح والالتقاط البكر للظواهر والاصوات والمشاهد، ومن خلال السياق العامي أو شبه العامي للسرد، على تسريب احوال نماذجه الى القارىء، حتى لتحسّ بصرخة "فهمي" تمزقك شخصياً كسكاكين تقطع جسدك "تصاعدت بعد منتصف الليل بقليل، صرخة غير ادمية بالمرّة. حتى الحيوان يمكن إدراك صوته، ولكنها بدت لأول وهلة جمادية ذات صليل كعظام تتكسّر وتتهشّم... تصاعد ذاك الشيء الغريب الغامض مفاجئاً كالطعنة الملثاثة... اندفع فجأةً صوت كالطوفان الهادر العمودي له وقع العظام نفسها وهي تسحق صوت أقرب الى رعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة ما لبثت ان فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها ان ينهيها... انطلق صغير معذب متألم متظلم باكٍ غاضب كافر مستغيث بائس مؤلم زاهد... آي... آي... آي.... آهة صارخة ثاقبة كعشرات من الإبر المسمومة الحادة انطلقت في كل اتجاه"... ووصف اختلاط البول بالصديد بالدم بالحامض بالقيء، في حال "فهمي"، يشيع في القارىء هذه الأوصاف كلها. وليس هذا وحده، بل ما هو أعمق: فهمي المريض المتوجّع يغدو، بعد سياق القصة، النموذج المرتجى "لعفّت" سيّد البلدة، المتفوّق الناجح، الذي يضيق بأوجاع فهمي وصراخه في بداية الامر، ثم يغدو فجأة نموذجه المفقود الذي عثر عليه، وتحركت في نفسه رغبة التوجع والصراخ مثله.. ففي قصص ادريس أعماق تخاطب أعماقاً. وهو غالباً ما يكشف عن حقيقة المعذبين والهوامش والمصاريع وهوامل المجتمع، وينتهي الى الانتصار لهم أو الانتصار معهم وكائناته كائنات عالم سفلي إنما غير قبيح. بل لعله يندرج فيه ويدرج فيه قارئه اندراج ابناء الليل في الليل كما في قصة "في الليل"، حيث وصف لعالم الفقر الضاحك، ووصف جذّاب للظلمة الحلوة والتعب، للمرح ومراتب الضحك وخبراء الفقر، والحالة هذه حالة مصرية بامتياز، الا انها نابضة وحية وأبعد من أصلها الاجتماعي، فهي تتجه باتجاه فلسفة ما، على عادة إدريس... ومثلها قل في "حادثة شرف"، فهي تطلع من حضن اجتماعي محلي هو الريف المصري حيث "للشرف" المتعلق بالعلاقة مع المرأة عرفه وضغطه.. الا ان عبقريتها في القصّ والسياق والتفاصيل واللغة المستعملة، مثلها في انكشافها الفلسفي الاخير: حين امتدّ كل شيء في القرية، من عيون النساء الى أصابعها الجافة المدببة، الى مكان "الشرف" في جسد فاطمة الجميلة المتهمة بصاحبها "غريب"، وتأكدوا مع العارفة "الست أم جورج" من سلامة شرفها آنذاك... انكسر شيء هو هذا المعنى بالذات في فاطمة.. انه من الظلم ليوسف ادريس محاكمة قصصه بمقاييس سياسية واجتماعية... فهذا المبدع قادر على التوليد الحرّ والانساني والمتأمل والحالم من خلال تمرّغه في أسفل وحول الحالات البشرية، ومن خلال تقنية وعوالم يمزج فيها بين دستوفسكي وغوغول، على نكهة محلية في اللهجة والشخصيات تجعل منه عبقريّ القصة المصرية بلا منازع. هو خالق شخصيات بل سابر أغوار شخصيات وكاشف القشرة عما يختلج في أصلها من جوهر. أصلها هو أصله هو. أي يوسف ادريس عينه. ف"عمّ حسن" في قصة "صاحب مصر"، يتقدّم الينا من خلال تقنية قصصية فذّة وواثقة يرتبها ادريس ببراعة رسّام يرسم لوحة بجميع عناصرها وتوازناتها، وهكذا يتمّ بالتدريج إدخال القارىء الى رأس الكاتب ليتماهى به، ويتم رسم صورة "عمّ حسن" مقدّم القهوة أو بائع القهوة المتجوّل بلا مكان محدد، الموجود على تقاطعات الطرق، المحب للناس بلا منّة، صديق العسكري "صميدة"، الذي يتعرّض لضرب مبرّح بلا سبب سوى الرغبة في طرده، والراحل عن مكانه، باختياره، من دون ان تجدي توسلات العسكري "صميدة" له لحمايته... هو يرفض ذلك، ويرحل...
ثم نكتشف ان صميدة بالذات غدا سعيداً بهذا الرحيل.. يقول يوسف ادريس متفلسفاً حول هذه الشخصية "انه انسان خرافي لكن الكارثة انه موجود" لكنه يتوغل اكثر فأكثر في وصفه بل تأويله وكان قد نشر القصة لأول مرة بعنوان عند مقاطع الطرق فينسبه الى اصحاب الطريق ويسميهم ايضاً السالكين. فهذا التجميل العرفاني للقصة أبعد من أدواتها المباشرة. وأهم ما فيه هو هذا الانحياز الانساني العميق الى الوجه الآخر من اشخاصه المعاقين أو الفقراء أو المعتوهين، أو المرضى الموجوعين، والالتصاق بهم، انحياز الشبراوي وهو معاون شرطة - في قصة "مشوار" - الى زبيدة المجنونة، التي كتب عليه مرافقتها الى مصر، وذاق منها ومن سلوكها البلاء العظيم... ثم اكتشف فجأة انها ذات عذاب حقيقي، وانها بريئة، وانه منحاز اليها، نادم على ما لاقاها به من إساءة.
هذه هي باختصار حقيقة يوسف ادريس، ويقينه، هو الذي كان يكتب كما قال عن نفسه "في حالة هاجس وانتشاء" والذي استفاد من تخصصه وعمله لمدة كطبيب اعصاب وتشريح وعلم أنسجة، في تشريح الشخصيات وتتبعها نحو أدق انسجتها، ثم لماذا لا يكون افتراضاً هو عينه، الدكتور أدهم في قصة "العملية الكبرى؟"... هذا اذا حاولنا، كما يقول فاروق عبدالقادر "تقليب البلورة على جميع وجوهها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.