1 ما لم يحققه والداها على المسرح من شهرة، حققته الشابة جولييت بينوش في السينما. إذ كان نصيبها من النجاح بمثابة تكريم ورد اعتبار لعثرات تلك العائلة على الصعيدين الشخصي والمهني. الصعيد الشخصي اولاً، فقد انفرطت العلاقة بين الزوجين بعد سنتين من ميلاد جولييت في التاسع من أذارمارس العام1964 في باريس، وانتهت بالطلاق مما حرمها من الدفء الأسري. اما على الصعيد المهني، فلم يحقق والدها جان ماري بينوش المخرج المسرحي، ولا والدتها مونيك ستالي المعلمة والممثلة المسرحية ما كانا يطمحان اليه، لكنها ورثت منهما ملكة حب عالم المسرح. 2 خطفها عالم المسرح بعدما اشتركت، وهي طالبة في المدرسة وبحثّ من والدتها التي احتضنتها، في مسرحيتين "المريض المُتخيل" لموليير و "موت الملك" ليوجين يونسكو. ثم ما ان حصلت على الليسانس في الأدب، حتى قررت الالتحاق بالكونسرفاتوار في باريس لأخذ دروس في المسرح والموسيقى. لكنها تركت هذا المعهد، ولتنتقل الى مدرسة خاصة أكثر جدية، ولتجد نفسها تحت إشراف فيرا غريه ذات السمعة الطيبة في مجال المسرح والسينما. بيد ان رغبة احتراف التمثيل اصطدمت بشحة مردوده المادي ما حدا بالشابة جولييت للعمل في أحد المخازن الصغيرة. 3 رغم وفائها للمسرح الذي اعتبرته أساس تكوينها الفني، فان جملة "انت قذر ياوغد" في فيلم "الحرية جميلة" لباسكال كاني، سجلت أول ظهور سينمائي لها وكان ذلك في العام 1982. لكن الأدوار الصغيرة التي أسندت اليها في عدد من الأفلام التلفزيونية لم ترض طموح هذه الشابة، إذ كانت عيناها مشدودتين الى عالم الشاشة الفضية. ضربة الحظ الحقيقية جاءت من حيث لا تتوقع، فها هو المخرج الكبير جان لوك غودار يستدعيها خلال مراحل الاعداد لتنفيذ شريطه التهكمي "السلام عليك يا مريم"، ومن دون ان يجد لها الدور المناسب. لكن المؤكد ان ما تركته هذه الشابة ابنة العشرين من حضور قوي في ذهن غودار جعله لاحقا، وفي سابقة، يعيد كتابة سيناريو فيلمه ليضمن لها دوراً صغيراً. وتتكرر نفس التجربة مع المخرج جاك دوايون، فهو الأخر أعاد صياغة سيناريو الدور المفترض ان تؤديه في شريطه "حياة عائلية"، وذلك بتغيير عمر الشخصية ابنة الرابعة عشر ربيعاً الى عمر يناسب هذه الممثلة التي بهرته خلال التمرينات. 4 جاءت القفزة الكبرى في حياة جولييت الفنية في العام 1985وعلى يد أندريه تشيني، إذ لم يتوان هذا المخرج عن اسناد دور البطولة لها، حيث أدت دور نينا في شريطه "موعد". ولئن حاز هذا الشريط على جائزة أفضل اخراج في مهرجان كان السينمائي، فانه مثل انتصاراً شخصياً لجولييت وعقد لها موقعاً في الصفوف الأمامية من تلك الاحتفالية باعتبارها كشفاً لموهبة جديدة لا غبار عليها. ما حصلت عليه من ثناء وتقدير في تلك الدورة جاء بثماره بعد عام، فقد قررت الصحافة الفرنسية منحها جائزة الممثلة الراحلة رومي شنايدر. وعند الحديث عن دورها في ذلك الفيلم تقول جولييت" انه بداية كل شيء، مثل الولادة. فلأول مرة أجد نفسي موضع ثقة مخرج. أبوة تشيني هي التي ساعدتني، وكنت مستعدة لمنحه كل شيء". 5 بعد عامين من التجارب الأقل اهمية، انتقلت جولييت الى محطة أخرى خارج حدود واطار تجربتها الفرنسية، فها هي تقف تحت ادارة فيليب كوفمان لتؤدي دور تريزا في شريطه الرائع "خفة الكائن غير المحتملة". ومن الطريف ان دور سابينا هو الذي أسند اليها في أول الأمر، لكن كوفمان قرر فجأة تغيير كل شيء عندما شاهدها تقرأ نص شخصية تريزا. عن نجاح هذا الفيلم الهوليوودي تقول بينوش: "الشيء الذي لا يحتمل في هذا الدور هو جنون الصحافة. فبعد سلسلة من المقابلات الصحافية وتكرار الأسئلة الساذجة احسست برغبة في رمي اجهزة التسجيل كلها". 6 ارتبطت جولييت بعلاقة حب مع مواطنها المخرج ليو كاراكس ولفترة دامت ست سنوات، وكان لكاراكس تأثير قوي عليها على الصعيدين الشخصي والمهني كما تعترف، حيث أنجزت معه فيلمين "الليلة في أولها" و "عشاق الجسر الجديد"، عن حياة مشردي الشوراع ليلة الاحتفالات بالثورة الفرنسية. وتختصر جولييت تلك التجربة بقولها: "انني أحسست بحب السينما وتيقنت لحظتها انني لا اعرف شيئاً عنها. لقد تعلمت من ليو ان السينما هي العمل الفني، مثلها مثل السر، مثل الهمسة الشاعرية الرقيقة. وله الفضل في حثي على التعلم والمعرفة والحفظ". 7 انفصالها عن كاراكس والجهد المضني في انجاز شريط "عشاق الجسر الجديد"، دفع بجولييت الى قرار السفر خارج باريس، لتجد نفسها تحت ادارة المخرج البريطاني بيتر كوسمنسكي في نسخة شريطه المعدلة ل "مرتفعات وذرنغ"، لكن الفيلم لم يكتب له النجاح المأمول، ما جعل الصحافة تحملها مسؤولية هذا الفشل بسبب لهجتها الثقيلة. الفيلم لم يعرض الا في بريطانيا وتشيكوسلوفكيا. وخلال العام 1992 قبلت عرض مواطنها لوي مال بالوقوف امام الممثل البريطاني جيرمي آيرونز في فيلم "ضرر"، ولتؤدي دور آنا التي ترتبط بعلاقة حب مع شاب ومع والده السياسي المحافظ في أن. 8 ما قدمته في "موعد" كررته في شريط "ثلاثة الوان- أزرق" الحرية في العام 1993، وهو الجزء الاول من ثلاثية المخرج البولوني الاصل كريستوف كيسلوفسكي المقتبسة من الوان العلم الفرنسي، الذي حاز على جائزة "سيزار". بعدها تخلد جولييت للراحة ولمدة عام لتضع مولودها الاول رافائيل. حينها عرض عليها المخرج جان بول رابنو قراءة كتاب جان جيونو، الذي اقتبس منه نص شريطه "خيّال فوق السطح"، من اجل ضمها الى فريق العمل. وبقدر ما اسعدها هذا الخبر، طلبت منه مشاهدة "مرتفعات وذرنغ" و "ثلاثة الوان - أزرق" لاتخاذ قراره النهائي. وكان لها ما أرادت، ثم بالاضافة الى تأديتها لدور البطولة مقابل الشاب اوليفر مارتنيز والذي حازت عليه كأفضل ممثلة فرنسية، وجدت نفسها غارقة في حب مارتنيز في أخر الأمر. 9 بعد فترة تردد في تسويق صورتها، قبلت جولييت ان تكون سفيرة لدار "لانكوم" المتخصصة بمستحضرات التجميل عبر عطر "بويم". ولتفتح لها معارك جانبية مع قريناتها الممثلات من أمثال ايزابيلا روسيلليني وكارول بوكيه واخريات. النجاحات التي حققتها جولييت في المحافل السينمائية، كأحد وجوه ما بعد السينما الجديدة في فرنسا، جعلتها تتحدى المخرج كلود بيري عندما عرض عليها لعب دور زوجة معتقل في سجون النازية خلال الحرب العالمية الثانية في شريطه "لوسي اوبراك". إذ اقترحت عليه تعديل السيناريو ليتماشى مع معاناة تلك السيدة التي التقتها، وبين تعنتها والالتزام بالنص لم يجد بيري، بعد اسبوعين من التصوير، من خيار سوى انهاء عقدها، ولتحل محلها الممثلة كارول بوكيه في سابقة نادرة في تاريخ السينما الفرنسية. 10 الشهرة التي كانت تبحث عنها وتؤرقها عقدت لها في العام 1997 ومن خلال شريط "المريض الانكليزي" للبريطاني انطوني مينغيلا، والذي حازت من خلاله على جائزة الدب الفضي لافضل ممثلة في مهرجان برلين، وجائزة الأوسكار عن أفضل دور مساعد من بين تسعة جوائز حصل عليها الفيلم. ولعبت فيه دور ممرضة كندية تدعى هانا، ابان نهاية الحرب العالمية الثانية، انهكتها حالة الموت التي تحيط بها فتجد نفسها مشدودة الى أخر الاحياء.