عندما تطابق الكتابة حدثاً، يرتبط فيها الفعل بالحرف، والصورة بالكلمة، والمشهد بالجملة، تستشعر حيوية ذلك المكتوب، بوصفه كاشفاً للرؤية المطموسة في منظومة الكتابة، بما استكن داخلها من عناصر إيحائية ذات اتصال حميم بالحدث الإنساني المفجّر لطاقات الإبداع. نستطيع - إذن - الحديث عن نمطين من الكتابة، أو طريقتين رئيسيتين، إحداهما "الطازجة" وهى التي تمنحك الإحساس بآنيتها، وربما انعكس لدى القارئ إحساس موازٍ بالألفة يقوده إلى الشعور بالمشاركة الإبداعية في الكتابة. والأخرى "المبيتة" ولا تعني السلب والتعسف، وإنما هي تنطوي على نوع من التواطؤ والاحتشاد بالكلمات والأفكار، حيث تكون الأفكار غالبة على الحدث، أو أن الحدث هو الذي تحركه الفكرة وليس العاطفة، وفي ظني أنها مرحلة تالية للكتابة "الطازجة" التي هي كتابة الحياة: البوح .. الحدث .. المشاهد .. التفاصيل الصغيرة. وفي الديوان الأول لشاعر - خصوصاً إذا كان صغير السن - يغلب عليه نمط الكتابة "الطازجة" حيث ترى الذات الشاعرة عالمها من منطق الفعل وليس رد الفعل. وإذا كان الشاعر أكثر نضجاً وتمرساً يمتزج في ديوانه نوعا الكتابة السالفان. في ديوان عماد فؤاد المقسم الى ثلاثة أقسام رئيسية، نلمح في الأول منها "حادث انتحار خفيف" كتابة "طازجة" ذات التصاق حميم بالحياة، حيث الروح معبرة بالضجيج والجسد خاوٍ مُسيّر لخدمتها، من ثم تنفتح الذات التجريبية على العالم، وتتعامل مع مفرداته بتداخل غير حذر، عن طريق بنية "العبيط" المستغلة في هذا القسم، سواء كان ذلك على مستوى الرؤية: "العبيط الذي شبّه لمرآته أولاداً كثيرين، ظل جالساً فوق مقهى البستان خمس ساعات، يتأمل امرأة تدخن النرجيلة .. ويضحك، يتأمل البنت التي تشبه ببدانتها حبيبته القديمة والرجل الذي لا يُنفخ في صورته أبداً" ص 11. أو على مستوى الحديث، وإن ادعى غير ذلك: "أنا لست عبيطاً، حين أفرح فلأنني املك ريقاً يسيل فوق المخدات اثناء نومي، فأصحو على بقعة نيئة ترطب الوجه" ص 13. وتبدو المدينة كمسرح للأحداث من حيث هي بنية مكانية تتلائم مع "العبيط" كشخصية بنيوية متسلطة في هذا القسم، فتظهر لنا بشوارعها وأزقتها ومقاهيها لتظهر المواصفات الكائنة في هذه البنية الأخيرة. وتملأ المدينة الروح ضجيجياً فتوازيها في مدلولاتها ومتطلبتها، عندئذ يبدو لنا الجسد خادماً لهذه الروح الجديدة، بما يتفق مع شخصية "العبيط"، فكان ذلك إيذاناً بالتعامل مع الخارج لا من حيث انعكاسه مع الداخل، بل بمقارنته ومقابلته بنظائرة. فغلبت "تيمة" الجنس كإحدى المتطلبات التي يكسر بها الشاعر - عن طريق عبيطه - أحد التابوهات. "ولست عبيطاً حين أفكر أن هناك بين هذه البنات الكثيرات بنتاً لا بد تحب ان تتذوق جسدي" ص 13. وفي قصيدة كاملة ص 13 يكشف لنا الشاعر عن هذه الحاجة الملحة والتي يتعامل معها بشكل يتفق مع طبيعته الظاهرية في ظل غياب الروح أو حضورها الموجه، عندئذ يكلّ الجسد المستعبد فينأى بنفسه: "العبيط.. مرة أخرى تعب، لمَّت مقاهيه القديمة من عبِّه خيوط بهجته" ص 33. من ثم يبدأ الفعل الحقيقي للانتحار - المعلن عنه في البداية - في نهاية القسم الأول، من خلال قصيدة التحول في الديوان، وهى أطول قصائده على الإطلاق، سواء كان التحول في البنية أو الشكل. فمن حيث البنية، انتهت بنية "العبيط" على مستوى الظاهر، وتوارت المدينة بأبعادها المكانية، وإن ظلت في الذاكرة. هنا.. يلوذ العبيط "المعدّل" - في القسم الثاني - بأماكن أكثر انغلاقاً بعد تجربة مريرة مع المفتوح والحسي، وتبدأ - على مستوى الشكل - رحلة جديدة من الكتابة حتمتها البنية الجديدة، وهو ما يكشف عن علاقة وثيقة بين الشكل والمضمون. فيغلب عليها الهدوء وعدم الانفعال في تناول الحدث، بل يتم التعامل معه من منطق تصويره للفكرة، بعكس القسم الأول، حيث الحدث هو الأهم والتفاصيل غاية في ذاتها. وهذا ما يكشف بقوة عن ارتباط الشكل بالمضمون، وتكشف البنية الجديدة في القسم الثاني وهي "الوحدة" عن "عبيط معدّل"، يتقيأ حصيلة تشرده وصعلكته المرتبطين بالمدينة، ما يوحي باستكناه الداخل المعطل - سابقاً - لغلبة المشاهدة والانبهار على الذات. من ثم يتحول الى كتابة مغايرة على المستويين الايحائي واللفظي، فتزداد مساحة الرمز وتقل المفردة، مما يشي بكتابة "مبيتة" يتحرك فيها الحدث بناء على رغبة الفكرة، وتتضاءل التفاصيل من حيث وجودها الإيحائي. فإذا كان الشاعر في القسم الاول يفرد مساحة سرد في قصيدة كاملة للمقهى، يحشد من خلالها مفردات المكان وما يتعلق بظاهر مرتاديه - قصيدة "الخرابات التي تتسع - كل يوم - في صدره"، نجده في بداية القسم الثاني - "إغماءات نغّصت وحدتي" - أقل "عبطاً" وأكثر هدوءاً وتمكناً، فيفرد له مساحة صغيرة ومكثفة فيكشف بذلك عن روح أقل ضجيجاً وجسداً اكثر هدوءاً، حيث تمتزج العلاقة بين الدخل والخارج: "الآخرون يتراصون مع الوقت نتبادل النظرات بتحيات مختصرة وخجولة، ونصمت فجأة" ص 53. وتظل كتابة الذاكرة هي مجمل قصائد هذا القسم - الثاني - حيث يتم وضع الانساق المعرفية لدى الذات على مشرحة "الوحدة" فيتم ترشيحها لتخرج بصورة مغايرة لما ترسبت عليه. وبذلك يعاد تشكيلها لتتلائم مع منظور جديد في الرؤية، ينبع من ذات مرسلة - استغنت تماماً عن التلقي - استطاعت ان تستقرئ الشواهد لتبسط لنا فلسفتها النهائية: "الأوراق التي تتهاوى من شبابيك الجيران لم نعد نهتم بها في البداية جربنا محاولين التقاط اكبر عدد وحين قرأناها .. ضحكنا من سذاجتنا .. وتألمنا صامتين" ص 53. هكذا..، يتكشف في القسم الأول العبث المؤلم والسعي غير الجاد في علاقتنا بالآخرين، وما يستتبع ذلك من ألم مرير ينغّص علينا وحدتنا، فلا يجب إذن - لأننا وجوديون - أن نخترع بأنفسنا آخر جديداً نستطيع التعايش معه - وهو ما يحاوله القسم الثالث والأخير من الديوان - فربما هو العود الحسن: "كأنني عدت مرة أخرى طيباً .. ووديعاً" ص 85. * صدر كتاب "أشباح جرّحتها الإضاءة" شعر لعماد فؤاد عن ديوان "الكتابة الأخرى" - القاهرة 1998.