Ibrahim Yared. In the Middle of Nowhere: A Quest for Belonging. وسط لامكان: بحث عن انتماء. Saqi Books, London. 1998 145 pages. لم يحدث على امتداد الاجيال الثلاثة الاخيرة ان ولد أي من افراد عائلة ابراهيم يارد ورحل عن الحياة في البلد ذاته. وان يوصف كتاب "وسط لامكان" بأنه "مجموعة ذكريات"، كما تفعل ذلك مقدمته، يعني الانتقاص من هذا الكتاب. انه، كما يؤكد العنوان الفرعي، "بحث عن انتماء" ليس "انتماءً" يرتبط، كما هو الحال في الغالب، بماضٍ جامد جغرافياً وزمنياً، بل "انتماء" في أي مكان، وأي زمان. يقدم لنا يارد مختارات انحياز جرىئة تثير فوراً فضول القارىء. وتهدف عملية البحث التي انجزها يارد، وكان يقصد بشكل رئيسي ان يقدمها لاحفاده، الى اعطاء مستقبل لهذه الآثار عن معالم ماضيه المهمة. ويتقبل نصه الروائي تلقائياً الطبيعة المتقلبة والهشة للذاكرة، وروحانية الماضي المتخيّل، وترابط الاشخاص والاشياء. وهو يقر بأن ماضيه سيصبح، تماماً كما هو الحال خلال عملية التذكر، جزءاً من مستقبل قراء كتابه: تصوغه عوالمهم الداخلية والظروف التي تحدد مسار حياتهم. يجد المرء هنا ادراكاً بأن الحاضر يتلاشى في الماضي في اللحظة التي يتحقق فيها، كما لو انه يقلّب صفحات كتاب. وانغمار القارىء هذا في العملية بالاضافة الى تأثيرات النص، التي تذكّر ب "غزار ديلوز وغتاري، ليس حيلة تعتمد بلاغة اكاديمية، بل انه بالاحرى نتيجة لتحول "لا مكان" يارد الى "كل مكان" القراء. يعتمد التقصي الذي يجريه الكاتب، بشخصية "ايبي"، صيغة الشخص لنا الثالث، فنادراً ما تُذكر اسماء الشخصيات والبلدان. وغياب التعريف الشكلي هذا ليس مسألة اخلاقية بل مؤشر الى الطبيعة المضللة للذاكرة، وعدم ملاءمة التصنيف في عالم يولي اهمية للصورة الصغيرة. يُستدرج القارىء الى هذا العالم بين ارتباط ونأي تجاه مكان موحش تماماً ومألوف. ويُفلح يارد، من دون اللجوء الى حذلقة متأنية او شعرية مستنبطة، في اعطاء قرائه هشاشة في الذاكرة تتيح لنا، عبر افتقارها الى ما يبررها، الانطلاق من التساؤل والمقارنة الدائمتين الى عالم القبول. ولن يجد القارىء ذاته في هذا الكتاب اذ يصبح جزءاً من حياة قرائه. يميل المرء الى ان ينظر الى كتاب "وسط لامكان" من خلال خلفية حرب اهلية، لكن الاسلوب الادبي ليارد، وهو مزيج حاد من السخرية والرقة والمزاح، يبرز غياب ما هو جوهري بالنسبة الى الاحداث: كل حرب هي حروب كثيرة، روايات متزامنة كثيرة. هذه هي الوحدانية التي يعتمد عليها البحث الذي يجريه يارد. الوحدانية التي لا تكاد تُحتمل في قلب ذلك الذي يُعرف بالفردانية. والخيوط الظاهرة المتشابكة التي تنتظم الكتاب تشير الى التمايزات التي تقود الى افكار استحواذية تدور حول التملك والانتماء والاغتراب: حول تمايزات طبقية واثنية ودينية، حول زيارات لم يتم القيام بها اطلاقاً، تحيز الصور الفوتوغرافية، واستحالة الاتصال، والزمان والمكان. وكما قال رافائيل صموئيل في "مسارح الذاكرة"، فان التاريخ هو الكتابة على الحائط. عندما يلتقي "ايبي" فنانة تجد صعوبة في الافتراق عن نتاجاتها، يتخيّل ان "الوقت يمضي بسبب الظلمة الدائمة في العِلّية حتى يأتي وقت، بعد ذلك بعقود كثيرة - عندما يكون ايبي والرسام والاشخاص الذين يُحتمل انهم حصلوا على اللوحات قد رحلوا عن هذا العالم - يبلغ فيه العِلّية ضجيج مدوي. وقع المحتوم، اذ يُهدم البيت - حيث كانت اللوحات بقيت ما بعد رحيل الرسام". لا يسع القارئ الاّّ ان يتذكر، بشكل ما، فقرة وردت قبل ذلك تتضمن مثالاً اخر على الصلة بين الموت والتملك: "تلقت العائلة بعد انقضاء بضع سنوات على انتقالها رسالة موجزة من الجيران السابقين تبلغهم ان اعمالاً تنفذها البلدية لتوسيع حدود البلدة تقتضي نقل المقبرة الى موقع يبعد بضعة اميال خارج المدينة ... وبعد تقصي الامر اكتشفوا ان نقل الضريح الى مكان اخر سيتطلب انجاز معاملات روتينية بالاضافة الى وقت وجهد ونفقات تفوق امكاناتهم المالية... أمضوا بضعة ايام من الحيرة الكئيبة لم يتبادلوا خلالها كلمة واحدة وانتهى بهم الامر الى عدم ارسال اي رد على الرسالة. ولم يُثر الموضوع مرة اخرى اطلاقاً في العائلة، لكن ذكرى هذا الضريح ظلّت تؤرق ايبي طوال حياته". يبدأ يارد كتابه بعدما احرق عملياً جسور ماضيه. والافضل للمرء، حسب رأيه، ان يُعنى بحديقة ذكرياته بدل ان يعيش في شِباك الماضي حيث تطغى الاعشاب الضارة على الورد الذي سيُقضى عليه لا محالة. وهو يقتبس اغنية غزل حزينة "يتحدر الشخص الذي يغنّيها من شعب عانى التشريد من بلده": كيف يمكن هجر المائدة عندما يُقدّم الحب... من دون التعلّق به بنظرة يُرثى لها... والرحيل، من دون اي ضجيج... عبر تفاصيل ذكرياته وتخيلاته يتحدى يارد القارىء ان يشكك في افتراضات المنفى المسبقة وينخرط في تفحص للوحدانية والانقسام. واسلوبه المنجز يجعل العملية، في الوقت نفسه، اقل وطأة واكثر تأثيراً. هناك امثلة كثيرة على ادب المنفى، لكن مقاربة يارد لا تجعل منه رائداً في مجال التكنولوجيا فحسب بل في تقنية الرواية ايضاً. فماضيه هو حاضره، وينتمي هذا الكتاب الصغير الجميل الى مستقبل كل اولئك الذين يبدون اهتماماً، على الصعيد الاكاديمي او غيره، في مفاهيم المنفى.