تأتي هذه المساهمة على هامش المؤتمر الطبي الذي عقد أخيراً في بيروت، لتوضيح ما تركه الأطباء العرب القدماء من أثر فاعل في الحياة العلمية، وخصوصاً على مستوى علوم الطب الإنسانية، ومدى الأشواط التي قطعوها على هذا الصعيد. فالمعرفة منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، هي مطلب جميع الشعوب التي حاولت أن تتنسم درجتها المرتبية على سلّم الحضارة، فتعمل على الإسهام فيها بقدر ما أتيح لها من فرص ذهبية، وتجارب وخبرات مضنية، فقد كان لهذه الشعوب أن تسعى وراء المعرفة التي تيسِّرُ لها الإفادة من المشاريع الحياتية، أكثر بكثير من الأنواع الأخرى من المعارف، لأنها أكثر صلة بوجودها وأبلغ ضرورة لمستقبلها. فالإنسان الأوّل كانت له لحظتان تاريخيتان على مفترق حضوره القديم فوق ظهر البسيطة. اللحظة الأولى يوم كانت الطبيعة تهزّ مخاوفه، بحيث ألجأته للاستعانة عليها بواسطة آلهة هيَّأتها له مصورته الخلاّقة. أمَّا اللحظة التاريخية الثانية، فقد كانت له يوم أشفق على نفسه من المرض وأفزعته آلام المصابين به من أهله وأنسبائه، ففزع الى تقيتها بأساليبه البدائية في صناعة الطب، مثل الاستعانة بالتعاويذ والأحجية والرقى السحريّة في محاربة المرض، ومثلما كان لاستقامة إدراكه ونضج وعيه أثره المباشر على حياته الدينية، بحيث كانت ترقى أساليب تدينه وتتقدم، كلما ازداد رقياً وتقدماً، كذلك تأثرت معرفته الطبيّة بذلك الرقي والتقدم، فكانت ان استقامت لديه بالخبرة والوعي، وبلغ به الأمر في المحافظة على صحته وصيانتها أعلى الدرجات، حين استخدم العلاج الطبي بالمستوى الذي يتساوق مع شرفه الإنساني من جهة ورتبته العلمية والمعرفية من جهة أخرى. لعلّ العرب الذين كانوا، كما قيل عنهم، من أشد شعوب الأرض في العصور الوسطى طلباً للمعرفة ورغبةً في الإفادة منها، عملوا أكثر ما عملوا على الاهتمام بعلمي الطب والفلك، وسائر أنواع العلوم التي تتفرّع عنها أو تتصل بها. وإذا كان هناك من يستبعد من علماء العرب، كل من انحدر من أصل غير عربي، فإن مفهوم العالم العربي الذي نقصده في معالجتنا هذه، كان قد حدّده المنصفون من المستشرقين من أمثال ف. بارتولد، وكارلوا ألفونسو نللينو، وألدو ميلي إذ قالوا أن علماء العرب في هذا المجال هم كلّ من أسهم في تقدم العلم ممن كتبوا بالعربية من أهل العصور الوسطى، وعاشوا في بلاد عربية، أو تدين لسلطان العرب، يجمعهم تراث واحد، ويربطهم مصير واحد"، وقبل الشروع بوضع اليد على بعض الكشوف الطبية التي كان للعرب شرف التنبيه اليها والعمل على الإفادة منها في ميدان التخصص الطبي، لا بدّ لنا من أن نحدد قبل كل شيء إطار الطب العربي الذي عرف على يد العلماء والباحثين من الأطباء العرب، محاولين قدر الإمكان التمييز بين ما عرف بالطبّ الوقائي، أو بالطب العلاجي، مع التنويه بجميع العلوم التي ساعدت عليها من جهة أولى، لنعمل فيما بعد على التمييز بين ما كان يقوم به الطبيب ومن ثم الصيدلاني، من دور بارز في معالجة المرضى، وتلقين علم الطب وتعليم أساليبه، وتدريب الأطباء، من دون أن ننسى الإشارة الى ما كان للطبيب من آداب والتزامات قانونية وخلفية. هكذا نشأ وتطوّر من الضروري متابعة الطب العربي وإضاءة جميع الجوانب التاريخية التي تتصل به في مرحلة ظهوره وتطوره، حتى بلوغه ذروة أصالته في المشرق والمغرب، مع الإشارة الى جميع المؤثرات التي تتصل بالطب الأجنبي الدخيل، والتي كثيراً ما حاول استمداد عناصر حيويته ونضجه وتطوره منها. ففي العصر الجاهلي كاد العرب أن يعرفوا نوعين من الطب لا ثالث لهما، يتمثل النوع الأول من هذا الطب، فيما هيأته لهم معتقداتهم الدينية التي كانوا يعتقدون بها، ولذلك كنّا نرى طبقة من الكهّان والعرّافين ينهضون به ويستخدمون فيه الرّقى والتعاويذ وذبح الذبائح حول الكعبة، والتوجّه بالدعاء الى الآلهة بغية التماس الشفاء لمرضاهم، أمّا النوع الثاني من الطبّ فقد هدتهم اليه خبرتهم اليومية، واستعانوا فيه بالعقاقير، وكان أكثرها يستمد من النبات ويؤخذ شراباً. كما أن العسل كثيراً ما كانوا يستخدمونه في علاج الأمراض الباطنة، على أنهم استخدموا في الجراحة الحجامة والفصد، وأكثروا من الكيّ بالنار، فقامت عندهم كما يقول بعض الباحثين، مقام المطهرات في الطبّ الحديث، كما انهم استعانوا بها في أنواع الجراحات المختلفة كالبتر والاستئصال وغير ذلك. وكان العرب يطلقون في جاهليتهم لفظة الحكيم على الطبيب، ولهذا فقد كان جميع الأطباء بنظرهم حكماء، أمّا عمل الطبيب / الحكيم، فهو أن يعالج ما يعرض للأبدان من أمراض مختلفة، ومعلوم أن لفظة الحكيم أطلقت أيضاً في العصر الجاهلي على القاضي الذي يفصل فيما ينشب بين الناس من نزاع ويحلّ لهم مشكلاتهم المستجدة، إذ كان يجمع في شخصه بين العلم والتجربة والنفوذ. ولعلّ الحارث بن كلدة الذي توفي عام 13ه / 634م، هو أشهر طبيب عرفه العرب في جاهليتهم، ولو عاش الى جانبه عدد من الجراحين والبياطرة كأبي رمثة والعاص بن وائل وغيرهما. فمن حكم الحارث بن كلدة الطبيب، المأثور، قوله: دافع بالدواء ما وجدت مدفعاً، ولا تشربه إلا من ضرورة، فإنه لا يصلح شيئاً إلاَّ أفسد مثله. وقال عند احتضاره: لا تتزوجوا النساء إلا من شابة، ولا تأكلوا الفاكهة إلاَّ في أوان نضجها. ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء. وقد نهى عن الاستحمام بعد الطعام، وأوصى بالتخفّف من الديون والهموم. وسأله معاوية بن أبي سفيان: ما الطبّ يا حارث؟ قال الأزم الجوع يا معاوية. وسألوه عن الدواء، قال: ما لزمتك الصحة فاجتنبه، فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه. فإن البدن بمنزلة الأرض إذا أصلحتها عمرت، وإذا تركتها خربت". ومثل هذه النصوص التي أوردناها، لتدل دلالةً واضحة على بعض المعالم الأساسية التي كان يحاذيها طبُّ الخبرة في العصر الجاهلي. وإذا ما تجاوزنا الحديث عن الطب والطبابة في العصر الجاهلي، فإنّنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام العصر الإسلامي... وإذا كانت صناعة الطب لم تكن بمستنكرة عند الجماهير العرب في الجاهلية، وذلك رعاية للصحة وعلاجاً للأمراض، فإن القوم حين اعتنقوا الإسلام، لم يجدوا في الاشتغال بالطب خطراً يتهدّد عقيدتهم وذلك لأن الإسلام أبطل الكهانة والعرافة إذ لا كهانة بعد النبوءة، كما وأننا نجد ان صناعة الطب لم توكل فيما بعد الى رجال الدين، لأن الطب الذي يمارسه الكهّان كان قد بطل، وبدأ العلماء يمهّدون الطريق الى طب الخبرة، أما القرآن الكريم فقد شرع يمدح الحكمة، خصوصاً وان الطب فرع من فروعها، ولا ينبت إلا في مظانها. هذا وقد سلّم النبي بطب الأبدان، حاثاً القوم على الاشتغال به إذا استطاعوا اليه سبيلاً، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف "يا عباد الله: تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء، إلا واحداً هو الهرم". كما روي عنه صلعم انه قال: "العلم علمان، علم الأديان وعلم الأبدان". مما جعل صناعة الطب ترتفع بذلك الى مرتبة تقارب الى حدٍّ ما مرتبة الدين. لقد استمر طب الأبدان قائماً في ظل الإسلام، وفي رعاية الرسول صلعم، إذ أثِرت عنه مجموعة من الأحاديث النبوية تبلغ نحو ثلاثماية حديث، وقد شكّلت بمجموعها ما عرف فيما بعد بالطب النبوي، وكانت تضم شروطاً عامة غايتها المحافظة على الصحة، والى جانبها عرفت بعض الأحاديث التي تتناول طرق معالجة بعض الأمراض. ونستمع للنبي، في هذا الشأن، يوصي بالاعتدال في المأكل والمشرب، كما يوجب الاستحمام، ويحث على النظافة، لأنها تشكّل ركيزة من ركائز الإيمان. ولم يتحرّج من مواصلة ما كان معروفاً في الجاهلية من استخدام العقاقير التي تؤخذ في العادة شراباً، وأكد على شراب العسل، كما أبقى أيضاً على الحجامة والفصد والكلى. ويبدو أن الطب في العصر الأموي، كان قد اتصل بمدرسة الإسكندرية القديمة، تلك التي أسهمت في نقل العلوم اليونانية الى العرب، ناهيك عن أنه كان لمؤلّفات علمائها تأثيرهم الملحوظ في دراسات العرب الأولى، ومن بينها على وجه أخص الكتب الطبية التي ترجمت مبكراً الى السريانية والعربية، وفي رواية ابن أبي أصيبعة انه حين أسلم الطبيب الاسكندري "ابن أبجر"، صحبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، فاستطبه واعتمد عليه في صناعة الطب. أما ابن النديم، صاحب كتاب الفهرست فيذكر أن عصر خالد بن يزيد، هو الذي عرف أول نقل في الإسلام، ولذلك فإن تطوّر صناعة الطب وتأثرها بالمدرسة الاسكندرية بدأت على يديه، وهناك من يقول أن أوّل من أقام في الإسلام مستشفى هو الوليد بن عبد الملك الذي توفي عام 88ه. ومع ذلك فنحن لا ننسى اشتهار بعض النساء في صناعة الطب، أمثال زينب، طبيبة بني واد، والتي كانت خبيرة بمداواة أمراض العين وبارعة في الجراحة. تأصل صناعة الطب ان حركة الترجمة التي أخذت ترقى وتتطور في العصر العباسي الثاني والثالث، كانت قد هيأت أيضاً للعرب الاطلاع على تراث الطب القديم، ولهذا فقد عكف العلماء على دراسته والبحث فيه حتى استوعبوه استيعاباً دقيقاً، ثم أخذوا في تنسيقه الى أبواب وفصول، وزادوا على ذلك حين عمدوا الى الكتب التي ترجموها فحملوها على التحليل والتفسير، كما تولوها أيضاً بالنقد والتمحيص، فكان لهم الفضل في الكشف عن الكثير من أخطائها ومواضع الضعف فيها. ولم تسلم من التمحيص كما يقول أحد الباحثين، حتى كتب أئمة الطب القديم أمثال أبقراط وجالينوس. ولا بدّ لنا في هذه العجالة من التوقف عند بعض الاعلام العرب أمثال أبي بكر محمد بن زكريا الرازي، الذي كان يُسمى بجالينوس العرب، والشيخ الرئيس ابن سينا الذي عُدّ هو أيضاً أبقراط العرب. أما أبو بكر الرازي، فقد اعتبر إمام الطب العربي في العصر الوسيط، عاش ما بين عامي 251ه / 865م - 314ه / 926م، وقد أقرّه في مرتبته الطبية العالمية كل من ادورد براون وأوسلر وأوليري من المستشرقين. وقد ظل في أوروبا الحجة الذي لا ينازع في الطب، حتى القرن السابع عشر الميلادي. وكان قد تولّى رياسة بيمارستان الخليفة المقتدر بالله الذي أنشىء عام 918م، بالإضافة الى ذلك فقد قدّم للمكتبة العربية والعلماء العرب خلاصة تجربته في علم الطب، خصوصاً في كتابه "الحاوي"، الجامع الحاصر لصناعة الطب، وهذا المؤلف هو دائرة معارف ضخمة، تختلف موضوعاتها وتصنيفها باختلاف مخطوطاتها، لأن الرازي كان قد توفي قبل إكمالها، فأتمّها من بعده بعض تلامذته الذين تتلمذوا على يده. ومن مميزات هذا السفر الضخم للرازي في علم الطب، ان مؤلفه ضمّنه فيضاً من ملاحظاته السريرية جمعها بطريقته الخاصة في مزاولة صناعة الطب، وممارسته لعلاج مرضاه. اما طريقته في الطبابة، فكانت تقتضي ان يستقصي اعراض المرض في دقة وصبر، ويحصر الاحتمالات التي تشير الى حقيقته. بالاضافة الى ذلك، فقد اشتهر الرازي برسائله التي ابدى فيها اصالة وابتكاراً، مثل رسالته في الجدري والحصبة، اذ انه سبق القدماء والمعاصرين له الى الصناعة في هذا الموضوع، وكان قوله فيه مستقصياً وشافياً. ويعتبر نوبرجر، ان هذه الرسالة تعدّ من خير المؤلفات العربية، وقد وفّق فيها الى التفرقة بين الجدري والحصبة، فوصف تشخيصهما وأبان عن اعراضهما، وأوصى بفحص القلب والنبض والتنفس والبراز بدقة. ولقد نقلت هذه الرسالة الى معظم اللغات الاوروبية، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على اهميتها، وعلى مظاهر الاهتمام الذي لاقته في الاوساط الطبية في أوروبا حتى مطلع هذا القرن. أما أبو علي عبدالله بن سينا الذي توفي عام 428 ه/1037م، فقد كان من اشهر ادباء الاعلام الذي ألفوا في صناعة الطب، وكان قد استوعب تراث الاقدمين ونهض بتنسيقه وتبويبه وزاده خصوبة وثراء، خصوصاً في كتابه الشهير المعروف ب"القانون" والذي يعدّ معجماً في مختلف فروع الطب. وتتميز مادة الكتاب بالوضوح والدقة والفناء، مما جعله من اكبر المصادر الطبية التي اعتمدت عليها أوروبا حتى مطلع عصرنا هذا. ان ابن سينا الذي عرف بالطبيب، كما عرف بالشيخ الرئيس، سيطر على الطب في الشرق والغرب قروناً. وبعد وفاته جمد الطب، فلم يجازف احد بعده في أوروبا بمناقشته. الطب الوقائي والعلاجي واذا كانت الامم تهتم اهتماماً بالغاً بالطب الوقائي، وذلك لأنه يكفل لمواطنيها الخدمات الصحية التي تقيهم شرّ الامراض والاوبئة قبل وقوعها، فقد كان العرب قد توصلوا في العصر الوسيط الى الكثير من اسس الطب الوقائي ومقوماته، فتوصلوا الى الوقاية مثلاً من الامراض بدراسة الجسم ووظائف اعضائه، وحاولوا الكشف عن اسباب الامراض وأعراضها وطرق انتشارها، لمعرفة اساليب الوقاية منها دفعاً لوقوعها، ويرى غير واحدٍ من الباحثين، ان العرب كانوا قد اهتموا بما نسميه اليوم بعلم الصحة، وحرصوا على وضع القواعد التي تكمل العافية وتحول دون الوقوع في المرض، ومعرفة الوسط الذي يعيش فيه الانسان، وذلك من خلال ملاحظة الهواء الذي يستنشقه والغذاء الذي يتناوله والماء الذي يشربه، والمسكن الذي يقيم فيه، والعمل الذي يقتات منه. وهناك اكثر من طبيب عربي عملوا على الاهتمام بالحالات النفسية، مع ما يتفرع عنها من بواعث مرضية لها تأثيرها القوي على الاجهزة الجسمية والخلايا المتصلة بها. ان تراث العرب الطبي يشتمل على العديد من المأثورات والوصايا التي يمكن تصنيفها تحت عنوان الطب الوقائي، فمن اقوال العرب مثلاً: "ليس اضر على الشيخ من طباخ حاذق وجارية حسناء، لأنه يستكثر من الطعام فيسقم، ومن الجماع فيهرم". * أستاذ في الجامعة اللبنانية.