قدم مارسيل كوربيرسهوك، البرفسور في علوم اللغة العربية والسفير السابق في عدد من الدول العربية، للمكتبة الغربية مجموعة من الكتب المهمة، عن المنطقة العربية تتجاوز في شكلها وفي منهجها العام اية دراسة اكاديمية بالمعنى التقليدي، خصوصاً عندما نتحدث عن "دار بريل" E.J. BRILL كناشر لتلك الكتب. فهو لم يمض الى الدراسات التقليدية والتاريخية، بل الى شكل مثير من اشكال الدراسات التفصيلية والمختبرية للغة العربية، بل والى احد فروعها ولهجاتها بالاحرى، وبالتحديد ما جاء من وسط جزيرة العرب بدلالتها التاريخية - اللغوية. ولكن نجاحه يكمن في انه احتفظ، على رغم ذلك، بمواقع اقدامه متوازنة وواثقة تقدم الجديد والمثير، التأويل والتأصيل في آن واحد. الكتاب الذي نستعرضه هنا هو الثاني من "شعر المشافهة والقصص في وسط الجزيرة العربية"، الذي يصدر عن دار بريل على شكل سلسلة، فيما توشك الدار الشهيرة بدورها المتميز على صعيد الدراسات العربية ان تنجز تقديم الجزء الثالث منه قريباً. وكان البرفسور كوربيرسهوك خصص الكتاب الاول للشاعر عبدالله بن حزيم الحرارشة الدوسري الشهير بلقب "الدندان" فيما خصص الكتاب الثاني لابطال العتيبة من الشعر ولا سيما شليوح العطاوي وشقيقه بخيت. وانجز كوربيرسهوك دراسته بعد معايشة ميدانية للمنطقة التي عاش فيها الشعراء اثناء وجوده في المملكة العربية السعودية نهاية الثمانينات كديبلوماسي، واستكملها لاحقاً كباحث متفرع. وهي المنطقة القريبة من الدخول التي افتتح بها امرؤ القيس معلقته الشهيرة "قفا نبك من ذكرى حبيب وموئل/ بسقط اللوى بين الدخول وحومل". ويكتسب هذا العمل اهميته من زاوية انه لا يتوقف عند البعد الكلاسيكي للدراسات الشرقية والعربية، على ما في ذلك البعد من قيمة، بل يذهب الى تقديم صيغة مختبرية جديدة تؤسس لمعرفة سوسيولوجية معمقة بسكان الجزيرة العربية، والتفاعلات التي طرأت على كيانهم الاجتماعي والنسيج اللغوي والمفهومي بتناوله الموروث الشفاهي والمروي كمصدر للدراسة والتوثيق. وهذه المبادرة تمهد لفهم اكثر معاصرة للشخصية البدوية وعلاقاتها مع الآخرين ومواقفها تجاه واقعها ومشكلاتها في عالم متحول، متفاعل مع عناصر غير مألوفة للشخصية المحلية التقليدية. وبقدر تعلّق الامر باللغة، فإن دراسات كوربيرسهوك تبدو كتحدٍ واضح للقوالب الغربية الموروثة عند دراسة الادب العربي عموماً، وهي دراسات يبدو انها اكتفت بانجازات القرن التاسع عشر. ويضم الكتاب الثاني خمسة اقسام: الاول افتتاحي يدرس العلاقة بين الشعر والراوي، ويحدد الدور الذي تلعبه الرواية في الذاكرة المحلية والموضوعات التي تركز عليها الرواية الشعرية عموماً، كما يتطرق الى تجارب شعرية محددة وصلتها بالنسيج القبلي في منطقة الدخول وجوارها. وفي الثاني يحلل البرفسور كوربيرسهوك طبيعة الصلة بين الفروسية والفخر والهجاء وما اليها من تقاليد واشكال لجهة دلالاتها الاجتماعية. ولكن الجانب المهم جداً من الكتاب يبدأ عند القسم الثالث الذي يركز على التحليل اللغوي والبنائي للادب الشفاهي والاشعار التي يتناقلها الرواة عن فرسان الجزيرة ووصفهم للمعارك والغزوات والدروس والحكم التي يحملها عالمهم. ويلحق المؤلف مجهوده المتميز بقسم رابع يفسر بشكل منهجي ومتسلسل المصطلحات والصور والرموز التي ترد في النصوص المنشورة بما يقربها من العربية الكلاسيكية، والى مقتربات اكثر طواعية للترجمة الى لغات اخرى. ويكتمل الكتاب بقسم اخير يثبت الاماكن والمواقع والمصادر التي تسندها والاستعارات المتداولة عنها. في النهاية يبدو الكتاب بجزءيه الاول والثاني قريباً مثيراً بالمقارنة مع الدراسات الاكاديمية التقليدية. وهو يجتذب القارئ المتخصص بالقدر نفسه الذي يجتذب القارى غير الملم بالعربية وعالمها. ولعلنا نكون على حق عندما نقول ان للكتاب فائدة كبيرة للعرب عموماً وابناء الجزيرة العربية خصوصاً، من دارسي اللهجات والتركيبات العربية وتداخلاتها وتفاعلاتها لان المؤلف سعى الى تحديد اصول الروايات والتبادلات التي طرأت عليها من قبل مستخدمين من قبائل مجاورة. * البروفسور كوربيرسهوك من مواليد لاهاي العام 1949. حصل على الدكتوراه بآداب اللغة العربية العام 1981. انتقل الى السلك الديبلوماسي منذ 1974، وعمل ممثلاً لبلاده في القاهرة ودمشق والرياض. كما شغل مناصب سياسية رفيعة في الاممالمتحدة ومراكز الدراسات السياسية قبل ان يصبح منذ العام 1996 مديراً لدائرة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية. "ORAL POETRY AND NARRATIVES FROM CENTRAL ARABIA: The Story of a desert Knight. P. Marcel Kurpershoek. E.J.BRIL-LEIDEN. ISBN 90-04-10102-