جلس الى الطاولة المقابلة في صالة رجال الاعمال. تبدو أعماله كثيرة: حقيبة ونظارات وقميص أزرق نيلي تتدلى منه ربطة عنق. كل ما يلزم. على الشاشة الزرقاء امامه، أي عن يميني، قائمة الرحلات المتأخرة في مطار فلورنسا. دخلنا الى الصالة بفارق دقائق عشر. مثله حاولت العثور على قنينة ماء أو عصير تعوّض بعض حدة شمس فلورنسا الرائعة، ومثلي لم يترك درجاً في "مطبخ" قاعة الانتظار الا فتحه. أغلق الدرج الأول بهدوء، والثاني بشيء من الهدوء، فالثالث بهدوء يشوبه الحذر، واخيراً الرابع بخشونة من أيقن أنه لم يعد هناك ما يخسره. كل ما في الصالة اوتوماتيكي، عصري اذاً: لا يفتح الباب من دون تمرير بطاقة السفر في "السحّاب" الالكتروني. ليس هناك موظفون فالآلة تتكفل بكل شيء، وصولاً الى القهوة طبعاً. لا بد ان موظفاً يدخل الصالة صباحاً لينعم على مسافري درجة الاعمال ببضع قناني الماء والعصير... ويغادر حتى المساء أو الصباح التالي. المسألة محمولة. فانت في مطار فرعي في ايطاليا، وتعرف نظامية الشعوب المتوسطية. تدرك ذلك من طابور المسافرين المنتظمين في "قطارات احادية" حتى تسجيل حقائبهم، ثم في طابور واحد أحد لا يزيده طولاً إلا الصبر اللازم لعبور التفتيش. ان كنت تخشى ارتفاع الضغط في دورتك الدموية اترك الساعة في حقيبتك فانت لن تحتاج اليها في مطلق الاحوال. لا تلبث ان تقنع نفسك بالأمر الواقع في الصالة حتى تمتحن الشاشةُ الزرقاء صبرَك بمكر: الموعد المقرر للإقلاع 10.5 بعد الظهر، والموعد المتوقع 00.6، ثم 30.6، ثم 40.6... طبعاً، لست الوحيد في مأزقك خصوصاً ان كان آخرون في انتظارك في مطار الوصول، فالطائرات الاخرى متأخرة ايضاً. نظرة اخرى الى الأخ المسافر، وهو أوروبي شمالي في المناسبة، وبدأت اقلق عليه. وجهه آخذ في الاصفرار وحاجباه اتخذا وضعية ال "77"، ووتيرة تغييرات وضعياته على كرسيه آخذة في التسارع. في الحقيقة لم أقلق عليه لدوافع انسانية محض، بل خوفاً من معاناته ألماً ما عند وصول موعد الاقلاع فنعود الى نقطة الصفر! ما هي الا لحظات حتى انطلقت ذبذبات تلفون "جاري" الياباني. بعد دقائق معدودة من بدء جولة ال"أوهايو غوزايما... هاي هاي" انتقل "جار الرضى" الى دورة المياه التواليت لمتابعة محادثته الهاتفية. كيف لا يهرب وصوت مذيعة بيانات المطار ينخر جهازك العصبي من النخاع نزولاً الى الفقرة الاخيرة الموروثة عن أولاد عمنا القرود؟ في تلك الاثناء وصلت الشخصية الثالثة. رجل قصير القامة وفي خمسيناته. متوسطي الملامح مع شاربين قصيرين ومريول ازرق ووزرة فوق قميص ابيض وبنطلون اسود، تتقدمه عربة صغيرة تتألق عليها "ينابيع" احلامنا العطشى منذ ساعتين. ما ان عاين موقع تمركزه قبل استبدال القناني المليئة بتلك الفارغة المبتورة من رؤوسها، حتى تحملق حوله حشد شبيه بالذي تراه لحظة دخول الصليب الأحمر الى مدينة محاصرة منذ أشهر ليست هناك دكاكين قريبة من الصالة!. لم تدم التظاهرة حوله طويلاً اذ استردت منه الشاشة الزرقاء عيون الركاب بومضة خاطفة. فبعد اعلان ودود من احد المصارف المحلية يتمنى لنا رحلة سعيدة، بدأ تعداد المسافرين السعداء: رحلتا روما ولوغانو جاهزتان لتحميل الركاب في الموعد المقرر، وطائرات الرحلات الاخرى الى لندن وفرانكفورت وميونيخ وباريس، وهي مقررة منذ اكثر من ساعتين، عليها الانتظار بسبب "ازدحامات المدرج". وسبحان من شق سيل الازدحامات ليعبر الايطاليون والسويسريون المختارون، دون سواهم، الى أرض الميعاد! لا بد اننا مذنبون عن اثم لم يقترفه هؤلاء. الحمد لله، بعد نحو عشرين دقيقة، تغير اعلان الشاشة ليبلغنا بأن طائرة بالرمو اقلعت منذ عشر دقائق، وفي موعدها المحدد. رحلتنا الى لندن؟ لا تزال مؤخرة "بعض الشيء"، حتى السادسة وأربعين دقيقة، بينما تشير ساعاتنا الى تجاوز السابعة مساء! في الثامنة إلا ربعاً، حطّت يمامة أحلامنا لتحمل بين جناحَيها رجل الأعمال الذي أصبح أشبه برهبان التيبيت، والياباني المدجج ببطارياته فلا ينهي مخابرة إلا و"يُلقّم" تلفونه بطارية أخرى قبل العودة الى "هيروغليفيته" الشفهية، وكاتب هذه السطور الذي أيقن أخيراً بأن جمال إيطاليا وروعتها لا يكتملان من دون ساعات الرياضة الروحية في قاعات مطاراتها، خصوصاً مع ريشة ورجل أعمال وسائح ياباني... ... وهاتف جوّال "تستأنس" برنينه.