نزاعان يمسكان الآن برقاب الشرق الأوسط بمعناه الجغرافي والسياسي العريض: السوري - التركي والإيراني - الأفغاني. وهما إذ يُعطفان على النزاع العربي - الإسرائيلي، يرسمان للمنطقة صورة كالحة يصعب استبعاد الحروب منها بالمطلق. هنا لا نتحدث عن حالات مأسوية وطنية، كالعراق، ناهيك عن أفغانستان نفسها، ولا عن أوضاع لم يتضح مستقبلها بعد كإيران ولبنان، بل أيضاً تركيا. ولا نتحدث، كذلك، عن جماعات رازحة تحت شروط حياتية بالغة البؤس، كالفلسطينيين والأكراد في معظم بلدان اقامتهم. فالاكتفاء بالنزاعين المستجدين يفي بالغرض، خصوصاً أنهما من نتاج الفترة الأخيرة التي اصطلح على تسميتها ما بعد الحرب الباردة. وهذا ما يحمل على قليل من التأمل حيث يبدو ان المنطقة المذكورة، مثلها مثل افريقيا، تعاني بحدة عدم نشوء "نظام عالمي جديد"، لا نشوءه. وإذا حاول البعض، بمقدار واضح من التعسف، ربط النزاع السوري - التركي بأبعاد دولية ونوايا بنتاغونية، فالمؤكد ان ربطاً كهذا يبقى مستحيلاً ومضحكاً في الحالة الإيرانية - الأفغانية. فهنا نجدنا أمام صراع بين جارين تتداخل فيه الاعتبارات المذهبية والدينية والعقائدية التي يزكّيها الانكفاء عن العالم الخارجي، ومن ثم الاهمال والاشاحة اللذان يمارسهما العالم الخارجي. وليس عديم الدلالة أن بلداً واحداً فقط من الأربعة المتورطة في النزاعين، أي تركيا، تربطه علاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة من دون أن تسري جودتها على بلدان الاتحاد الأوروبي. أبعد من هذا، ان المخاطر التي سبق توقعها بنتيجة قيام "النظام العالمي الجديد" المزعوم، لن تكون شيئاً يُذكر قياساً بمخاطر الانفجارين في ظل عدم نشأة هذا النظام. وحتى لو لم يتحول النزاعان إلى حربين، يبقى ان روائح التعصب المذهبي غدت تزكم الأنوف على نحو لا سابق له، فيما الانفاق على التسلح والعسكرة لبلدان فقيرة، بل مدقعة الفقر، ستترك آثارها على جوانب الحياة عامة: من الاقتصاد إلى أنماط الحكم التي ستغدو أشد استبدادية وأبعد عن الديموقراطية. يكفي القول، مثلاً، إن النزاع مع أفغانستان وما تلاه من تعبئة، ارجع المشروع الاصلاحي للرئيس محمد خاتمي خطوات عدة إلى الوراء، كما غيّبه عن الصدارة. أما تركيا، وهي أكثر البلدان الأربعة حياةً سياسيةً، فلم يعد يُسمع منذ انفجار نزاعها مع سورية أي صوت ينتقد تجاوزات ضباطها. ينطبق الصمت هذا على "حزب الفضيلة" نفسه الذي اندرج في الاجماع الوطني - المذهبي العام. هذه المعطيات تحمل فعلاً على مراجعة قناعات سياسية وجدت تفجّرها بعيد حرب الخليج الثانية، فتوقف أصحابها عند "نظام جديد" تم انشاؤه انطلاقاً من إلحاق الهزيمة بصدام حسين. ولم يُنتبه حتى اليوم إلى أن الوضع الراهن للعراق هو نتاج عدم نشأة النظام المذكور وعدم اشرافه، من بغداد نفسها، على قيام عراق ديموقراطي ومزدهر. والحال أنه بمقدار ما يعمل عدم نشوء هذا النظام على تعزيز الفوضى، بمقدار ما تعمل نزعات التوتر والفوضى على استبعاد نظام كهذا. أليس بنيامين نتانياهو هو "المنقذ" الأكبر من "استسلام" المنطقة للديموقراطية والرأسمالية والعولمة