"مانوج آغراوال"، هكذا عرّف عن اسمعه. أتى من وسط الساحة بعدما هرع إليه أحد معاونيه ليقول له إن صحافياً من جريدة "الحياة" يرغب في التحدث إليه. الفيلم اسمه "حاج كردي أبنه" ومشهد الممثلات يرقصن على ايقاع الموسيقى الهندية كان آخر شيء يخطر في البال لدى ورود غرويار. لدخول البلدة، يتعين على الزوار السير فيها على الأقدام من دون ان يكون لأحد حق استخدام سيارته إلا إذا كان من سكانها. القرية تتمتع بسمعة راسخة تتجاوز بكثير الشهرة الطارئة لأصحاب الشهرة الطارئة وبينهم مونيكا لوينسكي. ولعل هذا الأمر كان الحافز لجعلها مكاناً للتصوير والرقص. المخرج الهندي كانت تحيط به مجموعة من الفنيين والعاملين المساعدين. ما سبب اختيار هذا الموقع بالذات؟ أجاب: "نحن نصوّر في كل أوروبا لأن قصة الفيلم تدور حول رحلة سياحية منظمة تحمل البطل، وهو أشهر ممثل في الهند، إلى مختلف الربوع الأوروبية". أشار إلى الممثل الواقف في ناحية. اسم الرجل يبدو صعباً على النطق والكتابة. تبادل ابتسامات وتلويح باليد ثم سار كل في طريقه. غرويار ليست المقصد المفضل للمشاهير والنجوم الهنود. يفضلون عليها منتجع غشتاد السويسري الفخم. البلدة المشهورة بجبنها تسترخي على كتف هضبة ترتفع 800 متر عن سطح البحر ويشمخ فوقها قصر الكونت الذي كان يحكم تلك الناحية في الماضي والذي يعود تاريخه إلى أحد عشر قرناً مضت. وهي اعطت اسمها للناحية برمتها والمرتفعات التي يصعد منها جبال الألب إلى ذراه البعيدة. آخر كونت سكن القصر كان اسمه الكونت مايكل الأول. من البلدة كان يحكم المنطقة المحيطة، كما فعل أسلافه العشرون من قبل منذ عام 900 حتى عام 1554 حينما غادر إلى المنفى فراراً من الدين ليموت في المنفى. تقاسم كانتونا بيرن وفريبورغ أراضي "الكونتية" بأكملها واستقر ممثلو إدارة كانتون وفريبوزغ في القصر الذي يعتبر أحد أبرز المعالم السويسرية حتى عام 1798 حينما عُين فيه حكام إداريون ليصبح ملكية خاصة عام 1848 قبل أن تملكه دولة فريبورغ عام 1938 وتقوم بترميمه وانشاء متحف للفن "المدهش" فيه. كل شبر في البلدة يرشح بطعم السياحة والجبنة. وأغلب المساحات فيها خصص لاستقبال السياح وتلقف أكثر ما يمكن من جيوبهم. لا غرو اذاً إذا تذمر المقيمون في سويسرا من اضطرارهم إلى زيارة البلدة التي يرى فيها السياح القادمون معلماً سياحياً استثنائياً لا بد من القدوم إليه مما يجعل الزيارة واجباً يضطر إلى تنكبه المقيمون الذين يلعبون حينها دور المرشدين السياحيين مراراً وتكراراً. اليابانيون والأميركيون والأوروبيون وحتى السويسريون يرتادون غرويار. وادي غرويار له مركز إداري هو بلدة بوول. المراعي الخضراء زاهية ولون الابقار أسود وأبيض وهي ترعى في السهول الشاسعة الممتدة في كانتون فريبور قبل ان يحل موعد فصل الصيف لتتوجه قطعانها إلى المراعي الجبلية، وقد علقت برقابها أجراس تقرع برتابة، ووراءها عربة تجرها الخيول وعليها القدرة المعدنية والعدة الخشبية لصناعة الجبنة بالطرق التقليدية. المنطقة يسميها السياح "هايدي لاند" وهم يحبونها لأن كثيرين منهم قرأوا القصة الدافئة للكاتبة السويسرية يوهانا شبيري واسمه "هايدي"، على اسم بطلة الرواية وهي فتاة صغيرة. الكتاب قام بدعاية للمنطقة أفضل من أي مكتب سياحي وجذب قلوب ملايين القراء من مختلف انحاء العالم على مدى عشرات السنين لأنه مدون بطريقة واسلوب عذبين ولأن كل شيء فيه لطيف وجميل ويعكس زهو الطبيعة وطيبة البشر والشخصيات التي عاشت في جبال المنطقة. عسل طبيعي بحيرات ريمي تبتسم عند مدخل مخزنها واسمه "لا شوديار" القدرة. يافطة بالعربية: "عسل طبيعي سائل"، تلفت الانظار. الخط كوفي. هل كتبها شخص تونسي؟ "نعم، انه زوجي نوري، يأتينا زوار كثيرون من العالم العربي خلال الصيف ويحبون شراء العسل الطبيعي الذي يخلو من أي اضافات غير طبيعية". الغرويار جبنة مالحة تخلو من الثقوب. هكذا يصنعها السويسريون وهم يتهمون الفرنسيين الذين يصنعون جبنة تحت المسمى نفسه ويملأونها بالثقوب بأنهم لا يعرفون طعم الجبن الحقيقي. الثقوب الوحيدة التي يُسمح بها في سويسرا للجبن الجامد الأصفر المشابه طعماً للغرويار تخص جبنة الپ"ايمانتال" التي تحمل اسم بلدة أخرى سويسرية. الطقس الرطب السائد في جنوب فيربور وكانتون دو فوو المجاور هو الذي شجع على تطور صناعة الألبان والأجبان فيهما أكثر من أي منطقة أخرى في الكونفيديرالية. منذ القرن الرابع عشر ازداد الطلب على أنواع الجبنة المحلية الجامدة والتي يسهل حفظها مما سمح بتطوير صناعة الألبان وثروات أصحابها في المنطقة. وليس الغرويار هو الجبنة الوحيدة التي ينتجها الكانتونان وتذهب للتصدير، بل هناك جبنة "سبرينز" التي تصدر بدورها إلى أوروبا الغربية، مع العلم ان المزارعين الجبليين في كانتون دو فوو المجاور يصنعون جبنة غرويار من حليب المراعي الجبلية في منطقة الألب يسمونها "إلفيرا" تمييزاً لها عن جبنة غرويار المصنوعة من حليب السهول. من المفيد التأكد أيضاً من موعد تنظيم عروض ومهرجانات في غرويار يشارك فيها حرفيون من ناسجي الصوف والسيور الجلدية وصانعي الأجبان الذين يأتون إلى البلدة من الانحاء المجاورة ويقدمون عروضهم في المناسبات المحلية أو حينما يدعوهم المكتب السياحي إلى ذلك، لتكون الصور بذلك أحلى وليشاهد الزائر بعضاً من الفولكلور السويسري القديم. وتمتلئ ساحة البلدة بالفنادق والمطاعم التي تقدم الأكلات المعروفة بالاضافة إلى محال بيع التذكارات والتحف. وإلى يمين الساحة، وقبيل الصعود إلى القصر، يمكن رؤية المكاييل الحجرية المحفورة في الصخر والتي كانت تقاس وتكال بها الغلة والمحاصيل تحت اشراف رجال الكونت الذين كانوا يقتطعون منها حصة لسيدهم. والساحة ليست مكاناً طارئاً للاحتفالات، إذ كانت تجرى فيها مهرجانات وعروض محلية وفولكلورية منذ القرن التاسع، وهي كانت مكاناً ليختار فيه الكونت أي حسناء من القرى المجاورة لتكون محظية يحتفظ بها قدر حاجته. ويعود أغلب المباني إلى عصر النهضة وإن كانت النوافذ الحديدية التي يعلو الكثير منها شعار البلدة الذي هو طير البجع، مصنوع وفق طراز هندسي وفني مختلف يعود إلى فترات أكثر تأخراً. انهم يأكلون "الراهبات" بعد الجبنة المذابة هناك نوعان من المأكولات لا بد لكل زائر ان يأكلهما اذا قدم الى سويسرا وهما "لا فوندو" و"لا راكليت". والاكلتان معاً تخصان الجبن المُذاب ولكل منهما طقوس خاصة ويقبل عليهما السويسريون خلال فصل الشتاء، اما السياح فهم لا يقيمون فرقاً ويلتهمونهما صيفاً شتاء. "لا فوندو" تؤكل بطريقتين وهي تحضر في قدرة صغيرة خاصة تمسح اولاً ببعض النبيذ الابيض، الذي يستخدمه السويسريون بكثرة في معجناتهم ومأكولاتهم، وبعد ذلك توضع فيها جبنة غرويار وجبنة خاصة اسمها "فاشران" وتترك لتذوب وتوقد تحتها شعلة خفيفة من مصباح كحول يرافقها عندما توضع على طاولة الطعام لابقائها دافئة وذائبة. ويتولى الرجال عادة، لا النساء، اعداد "لا فوندو". ويمكن ان يتم تعديل خليط الجبنة كأن يضاف اليه الخردل او صلصة البندورة او استخدام نوع آخر من الجبنة، وهذا كله يتعلق برغبة مُعدّ الخليط او "الشيف" في المطعم. والطريقة الاولى تتضمن تقطيع شرائح الخبز "الافرنجي" الى قطع صغيرة في الصحن ثم يصار الى تناولها بشوكة دقيقة وطويلة ذات فقار. وتغرس الشوكة بقوة في قطعة الخبز وتحرك بعد ذلك مراراً في الجبنة المُذابة حتى تتشبّع بها ثم تُرفع وتؤكل. ولأن الجالسين يتقاسمون قدرة صغيرة واحدة معاً فمن الافضل الا يلعق المرء حافة الشوكة التي تعلو قطعة الخبز، والتي يتراكم عليها الجبن المتجلد والافضل انتزاعها بطرف الاسنان او تركها. اما الطريقة الثانية فتقوم على تقطيع رؤوس البطاطا الصغيرة المسلوقة، ومن دون انتزاع قشرها، الى اجزاء صغيرة ثم تغرس فيها الشوكة وتغمس بعد ذلك في الجبنة مع ايلاء مزيد من الحذر خشية تفتت البطاطا المسلوقة التي لا تملك تماسكاً مماثلاً لقطع الخبز. وميزة "لا فوندو" انها تؤكل ببطء وتسمح بالحديث والتخاطب على المائدة. ومن الممكن رش الملح والبهار على الصحن نفسه لغمس الجبنة فيها اذا وجد المرء ان المذاق بحاجة الى تغيير. ولدى انتهاء الجبنة المُذابة تظهر بقعة بنية من الجبنة الملتصقة بأسفل القدرة والتي تكون الحرارة المتصاعدة ادت الى تغيير لونها وتقددها. ويطلق على هذه البقعة اسم "الراهبة" وهي موضع تنافس للجالسين على طاولة الطعام. وتؤكل "لا راكليت" مع مخلل البصل والخيار الصغير. وتستخدم قطع الخبز او البطاطا مع فارق في تحضير اللقمة. اذ يتم تسخين قالب كبير من الجبنة خاصة بهذه الاكلة بعد قطعه نصفين ووضعه قرب النار. ويتم قحط الطبقة العليا من نصف القالب وصبّ الجبن المُذاب في صحن. ويتم تقديم هذه الصحون وعليها كميات صغيرة من الجبن المُذاب بحيث لا ينتهي الشخص من تناول صحنه الذي تتجمد فيه الجبنة شيئاً فشيئاً حتى يكون قد قدم له صحن آخر وهكذا دواليك الى ان يعلن شبعه واكتفاءه. وتبيع شركات التجهيز المنزلي معدات كهربائية فيها صحون صغيرة توضع فيها قطع الجبنة ويتم تسخينها تحت حرارة المسخّن الكهربائي، الا ان السويسريين لا يحبون هذه الطريقة في التحضير ويعتبرونها مساساً بتراثهم المطبخي ويفضلون عليها الاكل مباشرة من القرص الكبير المُذاب. وللسياح الذين تغريهم هذه الاكلة ان يحذروا تناول المشروبات الباردة او الغازية والاكتفاء بتناول الشاي الساخن المحلّى الذي يحبه السويسريون ان لم يستعيضوا عنه ببعض النبيذ الابيض. وتشتهر المناطق الفرنسية بمأكولاتها المصنوعة من الاجبان بينما تشتهر المناطق الالمانية بالنقانق والسجق الذي يصنع اغلبه من لحم الخنزير، مع العلم ان بالإمكان تناول لحوم الطرائد والغزلان في سائر انحاء سويسرا. مربى... الحليب غرويار - "الحياة" - لكل مكان وموضع طريقة يشتهر بها اهل الناحية في تحضير مأكولاتهم. وتعد الحلويات والمربيات جزءاً من هذا التفرد الذي يميز كل بلد عن غيره. وقد يكون الجميع سمع بمربيات غريبة لا تخطر على بال الا ان احدا لا يستطيع ان ينكر غرابة تحضير المربى... من الحليب. ويباع هذا النوع من المربى في اوعية زجاجية صغيرة وهو يعرض على الرفوف في المحلات في غرويار للراغبين في شراء هذا الخليط الذي يحمل طعماً خفيفاً قريباً من طعم الكاراميل التوفي. ويصنع هذا المربى "وفق وصفات الجدات" من الحليب البقري الطازج المليء بالدسم ويضاف اليه السكر حتى يشتد قوامه تدريجاً. ومن اجل زيادة كثافته وتأمين تماسكه يضاف اليه ايضاً بعض الحليب الدسم المجفف لتتحول شيئاً فشيئاً طبيعة المزيج ويقرب من لون ورائحة الكاراميل. ويأكل سكان فريبور هذا المربى مع خبز خاص بريوش يخلط مع الزبدة المحلية ذات النكهة والطعم الخاصين. ويضاف الى هذا الخبز الزعفران لتغيير لونه ومذاقه.