هل صار من المؤكد الآن بعد كل ما ظهر من خلافات، وكل ما صدر من بيانات وبيانات مضادة، أن مذبحة الأقصر قد تمت في ظروف أو ربما بسبب تبعثر حركة الجماعة الاسلامية أو إنشقاقها؟. هذا هو الأرجح، وإن لم تكن هناك طريقة مؤكدة لقطع الشك باليقين في هذه المسألة. إذ لايزال من المحتمل أن قادة تلك الحركة - وخاصة قادة السجون - قد بدأوا في الأخذ بمبدأ التقيه، ولو إلى درجة معينة. وهو مبدأ مناقض لمهنة الإرهاب. أو قد يكون الأمر على غير ذلك. فتكون تجربتهم الدامية والدرامية قد بدأت تزرع في قلوبهم الشك في فعالية ما يفعلونه، وإن لم يكن بالضرورة في حكمة منهج الإرهاب ذاته. والأرجح هو أن التفسير السليم لمبادرة قادة السجون في تموز يوليو الماضي قد نتجت عن نزعة طويلة الأمد لتعلم السياسة وقواعدها الأولية. فالأمر الملفت للنظر في هؤلاء القادة وفي غيرهم هو أنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً البتة تقريبا عن السياسة الحديثة، أو حتى القديمة. ولم يكن لديهم من العلم والثقافة ما يجعلهم قادرين على صياغة رؤية متماسكة حول التغير السياسي في المجتمع الحديث. وقد تكون فترة السجن الممتدة قد أتاحت فرصة للمناقشات، وربما للقراءة والاحتكاك بما يكفي لإدراك معنى المجتمع الحديث وقواعده. كما أن النتائج العملية لعقدين من الارهاب قد فرضت نفسها على قادة السجون، بما تحفل به من علامات الفشل والاحباط، حتى بالنسبة لفئة غير راغبة في إدراك وظيفة ودلالات وآليات السياسة. ولم يكن من الممكن في هذا السياق تجاهل حقائق واضحة مثل التآكل السريع للكادر الارهابي المنظم والمدرب وسقوط أهم القيادات الوسيطة إما قتلى أو قيد الاعتقال، والتراخي الشديد في معدلات التجنيد بين صفوف الشباب، وأهم من ذلك رد الفعل الصارم للرأي العام ضد الإرهاب عموما وضد القتل العشوائي للسياح الأجانب بصفة خاصة. ولم يعد من الممكن تجاهل حقيقة كيف تحول مشروع يظنه قادة الجماعة الإسلامية عظيما مثل إقامة ما يسمونه بالدولة الإسلامية إلى آلة شنيعة للقتل، وكيف تحول "الشباب المؤمن" إلى قتلة وسفاحين في سياق الإرهاب. ومن هنا، بات من الضروري مراجعة إسلوب الإرهاب - كآلية لتحقيق هذا الهدف، في هذه المرحلة. إذ يبدو من الأحكم - سياسيا - الحصول على هدنة توقف نشاط القيادات، وتمنح "الجماعة" فرصة لإلتقاط الانفاس ومعاودة التجنيد بين صفوف الشباب المحبط، وهو الأمر الذي كان غاية السهولة خلال عقد الثمانينات، وغزو عشرات المساجد الصغيرة من جديد ومواصلة "الدعوة" التي وصلت بهم إلى فرض سلطة حقيقية أقوى من سلطة الحكومة في عشرات من القرى والأحياء. وفي مقابل عملية المراجعة هذه، يبدو الأمر مختلفا بالنسبة لعدد كبير من الإرهابيين في الميدان. إذ أن هؤلاء قد قطعوا المشوار الأكبر على طريق اللاعودة وهم أسرى عقيدة "قاتل أو مقتول"، وهم أيضا يجدون صعوبة كبيرة في إستيعاب حقيقة أن "مشروعهم" قد هزم سياسيا وعسكريا، على الأقل في هذه المرحلة. ومن الواضح أن مزيجا من اليأس وجنون القتل قد أخذ بتلابيبهم عقليا ونفسيا. ويجد هؤلاء أو بعضهم على الأقل نفسه مصدوما في موقف قادة السجون وعاجزين عن فهمه، وتتحول أبصارهم إلى حفنة من قادة الخارج سواء في أوروبا أو أفغانستان كمصدر للإلهام والشرعية. ومن هنا يحدث الانشقاق، ومن هنا أيضا نرى تعبيراته العلنية ومظاهره الجلية وهي تتفاقم كل يوم. والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه بالنسبة لجماعة من هذا النوع هو ما يلي: كيف صار انشقاق أو تشقق تلك الجماعة ممكناً، من الناحية العملية؟ فلفترة طويلة بدا الإنشقاق أو التشقق والتصدع أمراً بعيداً، أو مستبعدا. فمن ناحية أظهرت "الجماعة الاسلامية" لا ميلاً مدهشاً للتماسك فحسب، بل إنها كانت قادرة على إدماج الحركات الأصغر من نفس النوع ومن ناحية أخرى، فإن هذه الجماعة ومثيلاتها في الحاضر والماضي كانت تعتمد في تماسكها الداخلي - ولو جزئيا - على قدرتها غير المحدودة على فرض عقاب صارم على أدنى وأتفه مظاهر أو حتى نوايا الاختلاف. إن التصفية الدموية السريعة للمخالفين لم تكن عقابا مشكوكا فيه، بل كانت عقابا مؤكدا. ولا يعد ذلك أمراً غريباً في هذا النوع من الجماعات والحركات الأشد تطرفا وغلواً في "العقدية". ويحدثنا التاريخ عن أن حسن الصباح مؤسس حركة الحشاشين، وهي حركة من نفس النوع الذي يضم "الجماعة الاسلامية" الراهنة في مصر لم يجد غضاضة ولم يتردد لحظة في ذبح ابنيه بسبب مخالفات تافهة للتعليمات الصارمة للحركة. وما كان يحدث في هذه الحركة في القرن الحادي عشر لا يزال يحدث في الحركات المشابهة في نهاية القرن العشرين. ومن ناحية ثالثة، فإن ما يبدو انه تصدع اوانشقاق في "الجماعة الإسلامية" يتم في وجه، أو بالاحرى ضد، القادة المؤسسين للجماعة. وقد رفعوا راية العصيان - لو كان في الامر عصيان بالفعل - ضد طائفة من الارهابيين الهاربين والقادة المحليين الذين لا يتمتعون بوزن يذكر في التاريخ السياسي والدموي للجماعة. وحتى بعض القادة الذين رفعوا راية العصيان من الخارج - أي من افغانستان او اوروبا - لا يتمتعون بمكانة تاريخية او تأسيسية مماثلة لقادة السجون ولا تصل قاماتهم إلى شيء مما كانت قامة قادة السجون والقادة التأسيسيين قد وصلته منذ سنوات، والأمر المعتاد في مثل تلك الحركات أن تأتي بعض ملامح الضيق بعد وفاة القادة المؤسسين. كيف لنا اذاً أن نفسر وقوع الانشقاق او بالأحرى التصدع والتشقق الذي نشهده في صفوف "الجماعة الإسلامية"؟. هناك بالطبع تفسيرات كثيرة واسباب متعددة، ولكنها جميعا يجب أن تمر بعقيدة "الشهادة" او بالنزعة "الاستشهادية" او بالأحرى الانتحارية لكي تؤثر في احداث انشقاق او تصدع خطير مماثل لما يحدث اليوم في "الجماعة الإسلامية"، وما حدث في الماضي في جماعات وفرق الخوارج وغيرها من حركات التطرف والغلو والإرهاب السياسي باسم الدين. فعقيدة الاستشهاد او الانتحار هي اهم جوانب قوة الحركات السرية والارهابية سواء كانت دينية أو غير دينية، فطالما ان هناك بشراً على استعداد تام للموت في مقابل القيام باغتيال او ارتكاب مذبحة، فإنه لن توجد طريقة تمنع نجاحهم في القيام ببعض اعمال الارهاب الناجحة، وقد تزداد فرص النجاح مع اتقان الجوانب الفنية والتنظيمية للعمل الإرهابي. وقد طورت بعض الحركات السرية المتطرفة عقيدة الاستشهاد وفنون الاغتيال بحيث صار لديها دولاب قتل هائل لم يمكن وقفه خلال فترة قصيرة من الزمن. غير ان هذه القوة الهائلة، والتي تجعل الإرهابيين في وضع ممتاز بالنسبة للدفاعات الأمنية لأي نظام سياسي، تتضاعف عندما تسود ثقافة الخوف العلاقة بين المواطنين والدولة في أي مجتمع. فمثلما يؤدي الخوف الى اضعاف خصائل وحقوق المواطنة، فإنه يؤدي أيضا الى إضعاف خصائل وكفاءة السلك الأمني. فالضباط الذين يعتادون التعامل مع مواطنين مذعورين بالأصل، ومملوئين بالرعب عندما تكشر الدولة، لن يطوروا مهارات المقاتل أو المناضل من أجل الدفاع عن الأمن والنظام. وهؤلاء سوف يصابون بإضطراب شديد عندما يأخذون في مواجهة ارهابيين راغبين في الموت دفاعا عن قضيتهم وفي سبيل تحطيم هيبة جهاز الامن وجهاز الدولة عموماً. وتستطيع المنظمات الإرهابية توظيف هذه الميزة إلى أقصى حد عندما يفقد جهاز الأمن تماسكه أو أخلاقياته أو الامرين معا. ولكن هذا الامتياز: أي عقيدة الاستشهاد او الانتحار لدى الإرهابي، يتحول الى مشكلة فاجعة ومفجعة لأصحاب المشروعات الكبرى الذين يتورطون في منهج الإرهاب، بل تتحول عقيدة الاستشهاد إلى آلية للتدمير الذاتي لتماسك المنظمة الإرهابية. فإذا كان الارهابي الفرد يمتلك امتيازاً في وجه رجل الامن، وهو استعداده للموت، فإنه يمتلك هذا الامتياز نفسه في مواجهة زعمائه وامرائه وقادته العسكريين. ومع اول خلاف أو اختلاف جسيم بين رفاق الارهاب، وخاصة عندما تتحطم الروابط التنظيمية الرأسية، يمكن ان تتصدع وحدة الرأي او الجماعة الارهابية، إذ يكون بوسع اعداد صغيرة من الارهابيين خوض معارك سياسية او حتى عسكرية ضد قادتهم إذ انهم سيكونون في هذه الحالة ايضا على استعداد للاستشهاد، او الانتحار، وتفقد القيادة سلطة الحياة والموت بالنسبة لرفاق الإرهاب، لأن هؤلاء لا يحرصون على الحياة ولا يخشون الموت، اي انهم لن يخشوا العصيان او الانشقاق، لانهم قد احدثوا قطيعة تامة مع ثقافة الخوف، عموما. غير ان هذا الانشقاق او التصدع هو اسوأ من اجل الارهاب، قبل ان يندثر ويموت نهائياً، ويفقد فاعليته، فمرحلة الانشقاق تعني بالنسبة للمجتمع الذي يفترسه الارهاب وجود عدد من الجماعات التي غالبا ما تكون من نوع للتنافس حول إثبات الوجود وحول الجدارة بالاسم التاريخي للجماعة الاصلية. وعندما يفقد قرار الإرهاب مركزيته ووحدته، وتتعدد هذه المراكز وتتنفس فيتبعثر تيار الإرهاب في اتجاهات متضاربة ومتنافسة، وهو ما يؤدي الى كثرة اعمال الارهاب، مع فقدانها في الوقت نفسه فعاليتها. وفي النهاية لابد ان يندثر الارهاب وينزوي ويموت ولكن ليس قبل أن يغطي المجتمع في أخلاقه وفي قواه الحية، وأحيانا في حيويته. ومن هنا نستطيع أن نضع أيدينا على المواجهة السلبية للإرهاب في مرحلة الانشقاق. إذ أن مفتاح هذه المواجهة هو تجديد حيوية المجتمع فكريا وثقافيا وأخلاقيا حتى قبل تجديد حيويته اقتصادياً.