ليس هذا الزمن الفني، برأي المحلّلين، فوضى وتسيّباً وإنعدام جاذبية فحسب، بل هو ايضاً اختفاء لأصوات جميلة يحوّلها هذا الزمن الى متفرّجة تراقب فلا تستطيع ان تُقْدِم على اختراق السائد، ولا تستطيع في المقابل ان توافق على ما يجري. والنتيجة طغيان "لون" واحد تكاد تضمحلّ مواصفاته الأساسية: "لون" الأغنية الإيقاعية الصارخة التي لا يمكن ان تسمع فيها إلا الإيقاع، فلا ميلودي ولا صوت، بل موسيقى و"طرطقة". وفي كل زمان، كانت الأغنية الإيقاعية. لكن كان ايضاً وجود للأغنية الكلاسيكية او الرومانسية او ذات الطرب الخالص او ذات الطرب الشعبي. اما اليوم فالتركيز الإعلامي، وتركيز الجمهور في قطاعاته الكبيرة، على نوع معيّن من الأغنيات، وكل الأصوات يجد نفسه "خارج الزمن" اذا لم يخض غماره. ببساطة: كما النظام العالمي أحادي، في راهن الكون، كذلك الأغنية العربية احاديّة تنتمي الى بؤرة اساليب قد تتعدّد إلا انها تصب في خانة التلوّث السمعي، البيئي ايضاً! وثمة اصوات لبنانية وعربية، كانت، في سنوات الانطلاق الأول ترسم طريقاً مختلفاً وزاهياً، فاذا بها بعدما دبّ الوهن المتمثّل في "ادّعاء" القوة والإنتشار لأغنية الإيقاع الأحادية، تستقيل او تنكفئ او تزاول العمل الفني انما من "حلاوة الروح" كما يقول التعبير الشعبي اللبناني. رونزا، مثلاً، وهي عايدة طنب التي فازت في "ستديو الفن 1974" بالميدالية الذهبية، وسمّاها الشاعر سعيد عقل رونزا، أعجب بها الأخوان رحباني صوتاً معبّراً وحضوراً متميّزاً ودعياها الى العمل معهما، وكانت لها محطات مضيئة. كان يبدو للكثيرين ان رونزا سوف تقدّم نموذجاً غنائياً مشبعاً بروحية الإداء الصحّ سيما بعدما تبنّاها الأخوان عاصي ومنصور. ومرّت سنوات شاركت فيها رونزا بأعمال مسرحية وتلفزيونية رحبانية وفرضت نفسها كقيمة جديدة للأغنية اللبنانية، غير ان المسيرة تباطأت اولاً ثم ألقت السلاح إلا من بعض الحالات العابرة التي قد تعيدها الى الأضواء لفترة مسرحية "الإنقلاب" قبل ثلاث سنوات مثلاً، ثم الى ما وراء الستار. ولعل المشكلة الأساسية في تجربة رونزا الغنائية انها دخلت العالم الرحباني في الفترة التي اندلعت خلافات بين الأخوين رحباني وفيروز حيث قال البعض انها ستستفيد من الخلاف، بينما حلّل البعض الآخر انها ستقع في الاحراج الكبير نظراً الى ان هناك من سيجعلها في مقارنة صعبة بل مستحيلة وربما قاتلة مع فيروز. والرأي العام الذي تعاطف مع فيروز آنذاك صارت رونزا تشكّل بالنسبة اليه العبء الاضافي على خلاف الأخوين وفيروز، فحكم عليها سلبياً. وهذا الموقف ورّط رونزا في محنة لا تحسد عليها! ورونزا هي واحدة من ثلاث شقيقات شاركن في "ستديو الفن": أمل وفاديا ورونزا. أمل تزوجت واستراحت، وفاديا تحركت قليلاً فنياً ثم اخذها، هي الاخرى، الزواج والسفر. بقيت رونزا التي ربما وجدت ضالتها في شهادة جامعية فنية عالية، وهي الان تدرّس علم الصوت في الكونسرفتوار، وآخر تلاميذها الفنان رفيق علي احمد الذي يتلقى تدريبات صوتيّة استعداداً للغناء في مسرحية "آخر ايام سقراط" لمنصور الرحباني، التي يلعب فيها دور البطولة. وعبدالكريم الشعّار، صاحب الصوت المنتمي الى عالم الصعوبة التراثية، قيل يوم تخرّجه من "ستديو الفن 1973" انه سيكون لبنة جديدة في الغناء الإبداعي. وتمر الايام وعبدالكريم يزداد انطواء، ولم يقدّم على صعيد الأغنية الخاصة به إلا كاسيت واحداً فقط في اواخر السبعينات، كله من اعمال رفيق حبيقة، لم يجد الصدى المطلوب. وبعده اقتصر وجود الشعار على حفلات تراثية متفرقة في مناسبات متفرقة، وانكمش اكثر فأكثر حتى صار نتاجه مقتصراً اخيراً على تواشيح دينية في شهر رمضان من كل سنة. اي كأن عبدالكريم الشعار، لا القدر، ردّ نفسه الى نقطة البداية في اول الشباب حين كان منشداً في احد الجوامع في مدينته طرابلس. ومنى مرعشلي، ابنة بيروت، وقد ارتوت من نبع ام كلثوم، قدّمت اغنيات خاصة، وتراءى للمراقبين انها ستفتح باباً بين الشباب الفني على الأصالة، في الفترة التي تلت "ستديو الفن" مباشرة، لكنها اصيبت بإحباطات متتالية. واذا كان ثمة اغنيات انتشرت لها، بين آونة وأخرى، فان نسبة كبيرة من اغنياتها كانت تُركن على الرف، جماهيرياً وإعلامياً. ومن يفتش عن منى مرعشلي اليوم يجدها في انتظار ... الفرج! والفرج لا يأتي بالنوم على حرير موهبة صوتية لم تدعّم بشجاعة المبادرة. وذروة الأزمة عند منى مرعشلي انها "قانعة" بالمقسوم!؟ وهناك صوت عذب، رقيق، مقطوف من شفافية، هو صوت المطربة عايدة شلهوب التي تخرجت ايضاً من "ستديو الفن"، وتلقّفها الرحباني لمدة معيّنة، وكان اسهامها في "ساعة وغنيّة" التلفزيوني واضحاً ومثمراً. وخلال وقت قصير تحجّمت طموحات عايدة الفنية في وقت توهّجت طموحاتها الدراسية، فتعلّمت وتثقفت حتى صارت استاذة في الكونسرفتوار، بل ربما هي المرأة الوحيدة في لبنان القادرة على الإمساك بعصا المايسترو لقيادة فرقة موسيقية وغنائية. وهنا وجدت نفسها فاستقرّت. وعبدو ياغي، الصوت الجهوريّ النظيف الذي انطلق بما يشبه الظاهرة الفنّية المدويّة عبر القدود الحلبية والموشّحات من "ستديو الفن"… ايضاً وأيضاً اين هو اليوم؟ لا يفعل شيئاً: القليل من الرحلات الفنية من اجل القليل من الدولارات لتسيير شؤون العائلة فقط لا غير. اغنياته مترجرجة، ولم يحدث ان حلّقت له اغنية. مكمن الضعف عنده انه يتباخل على نفسه بشراء الألحان، فيلحّن هو لصوته، وهناك من يقول انه يكتب "شعراً" لصوته من اجل التوفير ما ينعكس عليه مراوحة في مكان واحد، وبفعل التكرار، تصير المراوحة تراجعاً. وكيف لا يذكر عبدو ياغي ان بعض اغنياته التي "ضربت" كانت لملحّنين آخرين؟ ومن يرى السمنة الحالية على قامة عبدو يدرك فوراً كم ان البطالة مجلبة للأمراض! ورجا بدر، الشاب الخلوق الذي ضوّأت له اكثر من اغنية، ودخل على المسرح الرحباني بطلاً في "بترا"، وكان صوته مزيجاً من الليونة والنداوة، أدخلته قصة حب عاشها وانتهت بالخيانة، الى قلق وتمزّق وفشل نفسي، فهرب الى اميركا مبتعداً عن امكنة القصة وناسها وظروفها، وفي اميركا سحقته الغربة فلم يعد يقدّم جديداً. لعنة الحب احرقت احلام هذا الصوت العاشق فضاع. والمحصّلة التي يمكن الوصول اليها هي ان "ستديو الفن" خرّج من دفاتره مواهب عدة متفاوتة من حيث الجودة والإتقان والتوهّج. إلا ان الغريب الذي لا مناص من اعتباره عجيباً هو "بقاء" المواهب ذات المقاييس العادية في الصورة، و"غياب" المواهب ذات المقاييس الجمالية الطيّبة في خطوط خلفية لا "قتال" فيها ولا "معارك"، هي خطوط الصمت. والصمت احدى علامات الموت! والزمن ليس مسؤولاً دائماً. فالمواهب تعكس نفسيات أصحابها: ثمة من يصرّ على "اختراع" الطرق الى النجاح، وثمة من يقتله اليأس من ... صدمة واحدة. ثمة من يحتاج الى "منشّطات" يعاقب عليها القانون، وثمة من ميّزته الطبيعة بنشاط ذكائي فطري تصقله الخبرة. وثمة في النهاية من يعرف كيف يسبح في حين ثمة من يغرق في... شبر ماء!