يتأسس كتاب "المركزية الغربية" لعبدالله ابراهيم عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء على نقد نزعة التمركز حول الذات الغربية انطلاقاً من تاريخ الفلسفة الغربية ذاتها. اذ عملت هذه الاخيرة على استدامة الاحساس اليوناني القديم بالتفوق، وتعضيده بالفكر الديني، او حتى بالتصورات الفلسفية والفكرية. رغم احترامها لأسئلة كبرى وتحقيقها لابدالات معرفية ونظرية هيأت للعقل وضعية النقدية وسلطته المتُسائلة... بل ومراجعتها للنوازع الثاوية خلف الفكر الغري، والتي كانت الى عهد قريب بمثابة يقينيات غير مفكر فيها… فضلاً عن مقولاته الكبرى كالعقل والذات الغربيين التي أسست نزعة التمركز حول الذات الغربية ورسخت هيمنتها على الثقافات غير الغربية. كتاب عبدالله ابراهيم ليس جديداً في موضوعه. اذ لم يعد نقد نزعة التمركز محصوراً في مجالاته ولا محدوداً في الاسماء المشتغلة به. نداءاته الاولى جاءت من اوروبا ومدارسها النقدية قبل ان تتعالى اصوات من ثقافات وجغرافيات مختلفة المرجعيات ومتباينة الانساق. من جنوب اميركا اللاتينية وافريقيا، ومن الشرق والبلاد العربية، التي تجد نفسها وثقافاتها على الهامش مستبعدة، ووعيها بالذات معرقلاً بفعل المركزية الغربية واكراهات العلاقة مع الثقافة العربية. واذا راجعت الثقافة العربية باستمرار علاقتها بالآخر، فقد تساءلت عن معنى التثاقف وشروط العلاقة الثقافية المتوازنة بين الذات والآخر. وعلى رغم بعض الارتكاسات ومظاهر التذاوت والتماهي التي كان حجة لاشتغال ونقد التفكيكية والكتابات ما بعد الكولونيالية، بغرض محوها وتبني قيم الاختلاف وتحيين مفهوم الهوية بفاعلية الوعي والانتماء للزمن، فقد ترسخت بعض اشكال الممارسة النقدية في الفكر العربي المعاصر، وتوسع افق الحوار ليفتح خارج الذات في ماضيها واشكالاتها الراهنة والى الآخر الغربي في صلته بهذه الذات واكراهاته التي تلتزمها كمركزية مهيمنة. ولعل الكتاب انموذج من اشكال الممارسة النقدية المطبقة على الفكر والفلسفة الغربيين. حتى وان كان ذلك على خلفية النزعة التفكيكية مع دريدا والمدرسة النقدية فرنكفورت التي جعلها أفق المساءلة النقدية للتمركز الغربي، ولحظة في استشعار ضرورة نقد الفكر والثقافة الغربيين. يفسر عبدالله ابراهيم مماثلة الثقافة العربية الحديثة للثقافة الغربية والخضوع لهيمنتها وتبني تصوراتها الى حد المطابقة، بضمور مكونات الثقافة العربية وعجزها عن التفاعل الايجابي، وبهيمنة المركزية الغربية بمحدداتها الثقافية والايديولوجية التي تختزل الثقافات غير الغربية ضمن "ثقافة كونية شاملة". لقد فشلت الثقافة العربية في تحقيق انموذجها لانقسامها على الذات المترددة بين قوة الماضي وباغراءات الآخر الغربي، وانفصام عناصرها ومحمولاتها عن الواقع وسياقاته. كما انها لم تُكيّف ما تمثلته عن الثقافة الغربية لغياب الاطار المعرفي الناظم لعملية التفاعل بين العناصر المتمثلة و"التي استمر فعلها وكأنها ضمن نسقها الثقافي الاصلي". مما عرض الثقافة العربية المعاصرة الى "الانهيارات الداخلية" وجعلها حقل صدامات لانهائية بين المقولات والمفاهيم، بين الرؤى والتصورات. ولذلك فإنها تحتاج الى ممارسة النقد والتفكيك على كل نزعات المطابقة والتماثل مع المركزية الغربية فيها، وضد كل اشكال الهيمنة والاقصاء التي تتعرض له. وإذا كان تفكيك "المركزية الغربية" ونقدها يفضيان الى معنى "الاختلاف" فانهما يهدفان عند الكاتب "الى إبطال نزعة التمركز" من اجل اعادة ترتيب العلاقة بين الذات والآخر "على أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية" عليها يؤسس الاختلاف الرمزي بين الثقافات معرفة وفكراً مغايرين، ويقيم تفاعلاً بين الذوات والشروط التاريخية لتحديد اسئلة الانسان وثقافاته المتعددة، والتي لا يمكن اختزالها او إحالتها الى تمركز فكري أو ديني او عرقي وحيد، يتوقهم صفاء هويته ومرجعيتها للآخرين. فالتمركز باعتباره "تكثف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري معين، يؤدي الى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلبة. استناداً الى معنى محدد للهوية، قوامه الثبات والديمومة والتطابق، يحمل بذرة الموقف الايديولوجي الذي يفسّر العالم ويحدد علاقاته بالآخرين في ضوء حقيقته الذاتية، ومرجعيته الثقافية الخاصة. نشأت مظاهره الأولى ضمن الفلسفة اليونانية، وتوسع حضوره مع بداية العصر الحديث حيث اصبحت أوروبا مهد "الممارسات الحديثة في ميادين المعرفة والاكتشافات الجغرافية، ومهد الدولة بركائزها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية" فسعت الى تنفيذ اشكالها وممارسة هيمنتها على كل الثقافات والمجتمعات التي تخالفها في هذه الانظمة، لاستفادتها من الفتوحات الاستعمارية والثروات ذات الصلة، ولاعتمادها على معطياتها الأوروبية من الثورة العلمية والفكرية من جهة ثانية. يعود عبدالله ابراهيم بنزعة التمركز حول الذات الغربية الى مجموعة من الأسس والمرتكزات التي قلل حضورها وفاعليتها في الفكر والفلسفة الغربيين ضمن ابواب الكتاب والذي بدا في اكثر من مناسبة جرداً فلسفياً و/أو تاريخ افكار حول موضوع "المركزية"! فهو يعود بها الى: 1 - مرتكزات علمية وعقلية تمثلها في انتقال أوروبا من الفكر اللاهوتي الى السيطرة على الطبيعة وفق أسس علمية وأطر المعرفة العقلانية التي هيأت منذ الكوجيتو الديكارتي أنا أفكر فأنا موجود الوعي بالذاتية الغربية. فقد انبنى التمركز الغربي من عناصر وفي مستويات عديدة مست الشعور والوعي الفردي والمجتمعي، وجعلت من ممارسات العقل ومظاهر التعبير الفنية والفلسفية والدينية متمحورة حول الهوية الغربية. في اعتبارها نسقاً ثقافياً هو غاية الانسانية او ضرورتها التاريخية من أجل التقدم. وها هو هيغل باعتباره مؤرخ الذاتية الغربية وأحد بناتها العظام، يلاحظ الكاتب، يسهم أكثر مما فعل أي فيلسوف حديث في تعميق صورة التمركز الغربي القائم على أساس التفاوت بين الغرب الأسمى عقلياً وثقافياً ودينياً وعرقياً وبين العالم الآخر الأدنى والأحط في كل ذلك". 2 - مرتكزات فكرية صرف، دون ادعاء ولا سند من تقدم المعارف والعلوم، تعود الى الفلسفة اليونانية القديمة والتي اعتبرت مقدمة ضرورية وصارخة لنوع من المركزية الفلسفية اليونانية. فبقدر ما تأصلت عن هذه الأخيرة قيم النظر العقلي، بقدر ما تمثلتها أمكنة لترسيخ المركزية الفلسفية التي أعدمت على يد الثالوث: سقراط، افلاطون، ارسطو، كل التراث الشفاهي الذي سبقها او خالفها. سواء كان يونانياً شفاهياً، او آتياً من شعوب وثقافات البرابرة. وهو ما يشكل مدعاة تساؤل عن أصول الثقافة اليونانية والشرقية منها بالخصوص، وعن الاستراتيجيات التي أتبعت لاقصاء المختلف والغريب عنها. 3 - مرتكزات عرقية تقول بوجود طبائع محددة وخاصة تقف سبباً وراء الحضارة الغربية. بل وتقيم من خلالها نظاماً تراتبياً للشعوب والثقافات يحدد تاريخها ونظرة الأوروبي اليها، كما يفسر حظها او استحقاقها من الحضور والفعل الانساني. إذ تتجلى نزعة التمركز العربي في رغبة الذاتية الأوروبية في الهيمنة على الآخر وتصنيفه ضمن قوالب وصور أبدية مثل الهندي الأحمر، الزنجي الأفريقي، او الانسان الشرقي المختلف. "والحال ان فكرة التفاوت أصبحت فلسفة لها بُعد اجتماعي وسلوكي، أدت الى انقسام عميق في الفكر الانساني". 4 - كما لعب "التمركز الديني" دوراً في تثبيت الهيمنة الغربية على فلسفية التعاليم والاستغلال الكنسي لقيم المسيحية. قد يكون هذا التمركز استمراراً للعصور الوسطى، بيد انه حكم علاقات الدول الأوروبية بمستعمراتها بعد الاكتشافات. فقد كان ضمانة الأنموذج الغربي واستمراره في مجتمعاتها، تم توظيفه وتكييف وظائفه مع العقل الحديث المتمركز حول أوروبا والذاتية الغربية.