كتب الاقتصاديون الاصلاحيون اللبنانيون مئات من الدراسات المفصلة حول كيفية تعديل السياسات الإعمارية أو ايجاد سياسات بديلة أكثر واقعية، وألقوا المحاضرات وعقدوا الندوات. لكن ذلك لم يؤثر في الحكومات الاعمارية ولا في الدول والقوى الغربية والاقليمية التي تحرص على ابقاء الوضع على ما هو عليه في لبنان، خوفاً على مصالحها المختلفة والمتناقضة في بعض الأحيان، وخوفاً من أن يستغل بعض الأطراف في المعادلة اللبنانية ذات البعد الاقليمي أي تغيير في الوضع اللبناني ضد أطراف أخرى، هذا بالاضافة إلى ضخامة المصالح المادية في استمرار السياسات الإعمارية ذاتها وإن أصبح من المعلوم ان كلفة هذه السياسات بكل أوجهها هي بلا شك فوق طاقة البلاد وان كلفة الاصلاح ستزيد على الطبقة الوسطى والفئات الشعبية كلما تأخرت معالجة الوضع بشكل جذري. ويبدو ان المعارضة السياسية في البلاد التي لا تزال تندد بالسياسات الاعمارية، وهي محاصرة من جانب الدولة بأساليب مختلفة، ليس لها إلا خيار واحد وهو المبادرة إلى مخاطبة الدوائر الغربية والاقليمية المعنية بالوضع اللبناني وذلك بشكل علني، تعجيلاً بالاصلاحات التي لا بد منها واستدراكاً لحصول الأزمة من دون القيام بالجهود المناسبة لتفاديها بالكلفة غير المحتملة اجتماعياً. صحيح ان النظرة الأميركية في السياسة الدولية هي في معالجة الأزمات عند انفجارها وليس قبله وان صندوق النقد لا يمكن ان يتدخل طالما ان البلد المعني لم يطلب المعونة، غير ان هذا يجب أن يكون سبباً اضافياً لكي تطرح جهات لبنانية لها صفة سياسية معترف بها، سياسات بديلة واجراءات اصلاحية متكاملة يتحمل كلفتها الفئات الميسورة التي اغتنت خلال الحرب وبعدها من جراء السياسات الاعمارية، وليست الفئات المتضررة من الحرب وذات الدخل المحدود. فالجهات الغربية المعنية تسمع ما يقوله بعض الاحزاب والقوى السياسية من كلام مسؤول وذي نفع للبلد المعرض للخطر. والمعارضة السياسية اللبنانية داخل النظام القائم، وان كانت قليلة العدد، فهي تمثل جميع الطوائف اللبنانية ولها وزن لا يستهان به نظراً الى المسؤوليات الجسيمة التي مارسها بعض من اركانها خلال الحرب من ناحية التهدئة والوفاق ونظراً ايضاً الى استقامة الرأي الاقتصادي لدى الكثير من الاركان الذين هم ايضاً اما اقتصاديون بارزون او من رجال الاعمال الناجحين والذين استنكفوا عن ممارسة نشاطاتهم الاقتصادية في لبنان بعد انتخابهم في المجلس النيابي منعاً لاي خلط بين المصالح المادية الشخصية وبين ممارسة الوظيفة الانتخابية، وهذا ما لم يفعله الكثير من اعضاء المجلس او الحكومة. والمعارضة ايضاً، ما انفكت تندد بالرشوة والفساد والخلط بين المصالح الخاصة والعامة وهذا موضوع آخر في اي اصلاح مستقبلي بمساعدة الجهات الغربية من صندوق النقد والولايات المتحدة ودول كبرى. ان استدراك الامور وعدم ترك مصير لبنان الاقتصادي في مهب الريح ورهن التدخلات الخارجية هو واجب وطني ملح. فالتدخل الخارجي لدعم الوضع المالي والنقدي الذي قد يحصل لاحقاً قد يُستغل في لعبة شد الحبال الاقليمية التي يمكن ان تشتد مستقبلاً نظراً الى جمود الوضع في المنطقة واستمرار النزاعات الحادة المختلفة في مواقع عديدة من الشرق الاوسط. فالمطلوب الآن من كل القوى الاصلاحية في لبنان تضافر الجهود والعمل لايصال الصوت الاقتصادي والمالي الرصين الى الاوساط الدولية والاقليمية الصديقة وذلك تحضيراً للاجواء لاجراء الاصلاحات الضرورية بالصيغة والمنهج اللذين يلائمان الاوضاع اللبنانية ويضمنان نهاية الاحتكارات في القطاع الخاص وانخفاض تكاليف المعيشة وتوزيع العبء الضريبي على القادرين بدلاً من الفئات الاقل قدرة. والجدير بالذكر هنا ان الدول التي عانت من حرب شعواء تقوم عادة بفرض ضريبة استثنائية كبيرة على الثروات التي تحققت خلال الحرب وعلى المداخيل المرتفعة وذلك لتعويض الذين فقدوا املاكهم ومصدر رزقهم او اهلهم خلال اعوام الحرب، وللقيام بتمويل اعادة اعمار المرافق العامة المهدّمة، ومثل هذا الاقتطاع الضريبي يعتبر جوهرياً ليس فقط لتأمين الموارد اللازمة وبالتالي لتفادي الوقوع في عجز ضخم للخزينة، بل ايضاً لتأمين التعاضد الجماعي بين من فقد وافتقر خلال الحرب ومن ازدهر واستفاد واغتنى. وهذا التعاضد هو عنصر اساسي للوفاق الوطني الذي لا بد منه لانتشال البلاد من حال التفسخ الاجتماعي الناتجة عن الحرب. وفي لبنان قامت الحكومة الاعمارية بعمل عكس ذلك، اي انها خفضت ضريبة الدخل الى حد اقصى 10 في المئة ومضت في اعفاء ارباح المضاربات العقارية والمالية، كما اعفت الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة من اي اقتطاع ضريبي. وكانت النتيجة حتمية: وقوع الخزينة في حال عجز مفجعة وعدم تحقيق الوفاق الوطني وعدم اعادة للحمة الاجتماعية الى الوطن الجريح والمكبّل. واللبنانيون يكرهون انعدام العدالة الاقتصادية والاجتماعية بالمستويات التي وصلت اليها البلاد في السنين الاخيرة، فقد كان التململ الاجتماعي السبب الرئيسي في تأجيج عوامل الحرب الداخلية عندما كان وضع الفئات المحدودة الدخل احسن بكثير مما هو الآن، فكيف به اليوم وكل المؤشرات الاجتماعية تدلّ على انخفاض حاد في مستويات المعيشة وزيادة البطالة لدى فئات واسعة من الشعب! فاذا انفجرت الازمة - لا سمح الله - ولم يكن الجو مهيئاً لاجراء اصلاحات جذرية مالية وضريبية واجتماعية فإن العلاجات التقليدية لن تنفع وقد تقع البلاد في حال طوارئ والغاء ما تبقى من الحريات العامة والخاصة. والحقيقة ان الوضع اللبناني ليس شاذاً في المنطقة العربية، فاذا كانت الدولة اللبنانية تنفرد بالمجازفة في سياستها المالية، كما بيّنا، وذلك على خلاف الدول العربية الاخرى التي تمارس سياسات اكثر محافظة في الحقل المالي، نرى النمط اللبناني في علاقة بعض رجال الاعمال بالسلطة واستفادتهم من مواقع ريعية محمية من اجهزة الدولة نمطاً ليس فردياً في المنطقة، مما يحدّ من فوائد النظام الرأسمالي الحرّ ويجعل بعض الاقتصادات العربية شبيهة الى حدّ ما بما ظهر اخيراً في دول شرق آسيا المتأزمة، مع الفارق المهم وهو قلة القدرة الانتاجية الصناعية لدى القطاع الخاص العربي الذي يوجه الحصة الكبرى من جهده الاستثماري الى القطاع العقاري والسياحي والتجاري. وبعد الفورة التي حصلت في هذه القطاعات على أمل تحقيق سريع للسلام العربي - الاسرائيلي الموعود جاءت الحالة الانكماشية بسبب مخزون المشاريع العقارية التي لم تجد الطلب الكافي عند تسويقها. كما ان مستويات البطالة اصبحت عالية في حالات كثيرة والتباين في الاوضاع الاجتماعية ازداد ما يولّد التوتر الداخلي الذي يأخذ اشكالاً مختلفة حسب البلدان. صحيح ان ضيق الاسواق المالية المحلية وحذر المستثمرين الغربيين بالنسبة الى المنطقة العربية من العوامل التي حدّت من جوّ المضاربات ومن الحمى وبالتالي فان خطر حصول ازمات على النمط الآسيوي هو خطر محدود. انما هذا لا يعني ان الاقتصادات العربية في منأى عن الهزّات المستقبلية. وعلى خلاف العقيدة الاميركية، فإن معالجة الاوضاع معالجة رصينة هي أسهل وأقل كلفة قبل حصول الهزّة منها بعد الهزّة، غير اننا في العصر الاميركي، فهل من يجرؤ على تصرف مغاير في لبنان والاقطار العربية الاخرى؟