بالعودة اليه، يمكن للمرء ان يقول ان مؤتمر القمة الاسلامي الذي عقد في طهران في بداية الاسبوع الثاني من كانون الأول ديسمبر 1997، يمثل تدشيناً رسمياً لنقل الصراع مع الغرب الى الميدان الثقافي. فقد كان الطابع السياسي لقرارات القمة أقل كماً ونوعاً من اللقاءات السابقة. كما كانت اجندة المرحلة العالمية الحالية واضحة في التوصيات رغم محاولة اسلمتها ووضعها في سياق له مرجعية اسلامية. وبالتالي أقرت الدول الاسلامية والمجتمعات المسلمة بضرورة مواجهة التحديات الثقافية بعيداً عن المزايدات السياسية واللفظية والشعارات التي يصعب محاكمتها وفحصها واخضاعها للواقع، لانها تقوم على مبررات ايديولوجية تنزلق من الحسم العقلي. اما الثقافي فهو واقع معاش ومباشر - في اغلب الاحيان - في تجسيداته وتجلياته. لقد لاحظ عدد من المراقبين ان مؤتمر القمة الاسلامي هذه المرة يختلف عن السابق. وقد رصدت بعض عناوين لموضوعات حول المؤتمر ركزت - بوضوح أو ضمناً- على تحول في اهتمامات القادة المسلمين. فعلى سبيل المثال، نجد عناوين: "مؤتمر الواقعية والقبول بالاختلاف والتنوع" الشرق الأوسط 15/12/97 و"وميض العقلانية في قمة طهران" زين العابدين الركابي، في: الشرق الأوسط 13/12/97 و"قمة طهران وحوار الحضارات" رياض ملحم، في: البيان 21/12/97 و"طهران تقود منظمة المؤتمر الاسلامي الى القرن المقبل" مجلة العالم 13/12/97. وقد كتب اسلامي ذكي تحت عنوان: "المؤتمر تحول في طهران من تجمع علماني الى كتلة تلتزم بالاسلام وهذا أخطر ما تحقق"! عادل حسين: صحيفة الشعب 19/12/97 فهذا تحصيل حاصل ولكن الكاتب صاحب الخلفية العلمانية أحس بلمسات علمانية فلجأ الى كتابة وقائية. وقد ذكر احد المعلقين بأن "مجرد استضافة طهران للمؤتمر، هو خروج عن خط الفكر التقليدي للثورة الايرانية، فوفق ذلك الخط لا بد ان تكون كل الحكومات في البلاد الاسلامية غير شرعية طالما انها لا تلتزم بالنهج العقائدي الايراني". تركي الحمد، الشرق الأوسط 28/12/97. قد نجازف بالقول بأن المؤتمر قد طرح اشكالية التقدم والتأخر عند المسلمين والتي شغلتهم منذ القرن الماضي حين حدث الاحتكاك الأول غير المتكافئ مع الغرب. وكأن بهذا المؤتمر يتساءل: لماذا نجد المسلمين والذين يفوقون المليار نسمة هم الاكثر تخلفاً بين شعوب العالم؟ ويفصح التساؤل عن خوف من هجمة ثقافية بسبب التخلف الاقتصادي والعلمي بمعنى الهجوم ثقافياً من خلال هذه الثغرة. وقد صرح السفير الايراني في عمان قبل مؤتمر القمة الاسلامية، متحدثاً عن جدول الاعمال: "اما على المستوى الثقافي، ونظراً للهجمة الثقافية الغربية على الدول الاسلامية وخاصة في هذا الوقت الذي نرى فيه الاتصالات تجرى عن طريق الاقمار الصناعية حيث تم كسر الحاجز الثقافي بين دول العالم كله، فان من الضروري، كما أتوقع، ان تطرح هذه القضية على جدول اعمال المؤتمر وان يجري الاتفاق على تنظيم استراتيجية ثقافية للعالم الاسلامي لمواجهة هذه الهجمة من جهة، وبحث الوسائل للحفاظ على هوية الامة وشخصيتها من جهة اخرى" مجلة العالم 6/12/97. وقد كان توقعه صحيحاً اذ احتل الثقافي حيزاً كبيراً من النقاشات والقرارات والتوصيات، رغم سخونة موضوع السلام في فلسطين والصراعات الاسلامية الملتهبة في اكثر من مكان. وبعد المؤتمر كان واضحاً بروز توجه جديد وخطاب جديد يبعدان عن التطرف والحماس الاجوف. واعتقد ان تقييم وزير الخارجية الاردني فايز الطراونة يلخص مضمون هذه القمة، كما يقول في تصريح لصحيفة "الاهرام" المصرية في 20/12/97: "لا شك ان القمة تناولت باخلاص ودقة عدداً من القضايا النوعية منها: حقوق الانسان ومكافحة الارهاب الدولي ومدونة السلوك، والحاجة الى عقد اتفاقيات ثنائية أو جماعية بين الدول الاسلامية لمكافحة الارهاب العالمي كما تناولت قضايا التنمية المستدامة وقضايا التراث الفني الاسلامي. وفي هذا الاطار اعتقد ان القمة الاسلامية قد حققت قفزات نوعية في تلك القضايا الحضارية والثقافية والاقتصادية والانسانية وتفوقت على المجالات السياسية التي تحتاج الى وقت طويل" ويضيف: "وهي بداية نأمل ان نبني عليها في المؤتمرات الاسلامية القادمة لندخل في القرن ال 21 ونحن اكثر استعدداً للتحدي الحضاري". كان "اعلان طهران" الذي صدر عن مؤتمر القمة الاسلامية كونياً وعالمياً اكثر منه اسلامياً وكان يمكن ان يكون اعلان جنيف او كوبنهاغن. هناك مشكلات امنية واستراتيجية محددة ظهرت في التوصيات، ولكن الرؤية العامة والروح والفلسفة التي تضمنتها التوصيات الباقية جاءت متأثرة بخطاب وأجندة عالميين يجري تداولهما خلال العقد الاخير وبكثافة اكثر بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، مثل حقوق الانسان، المجتمع المدني، حقوق المرأة، التنمية المستدامة، البيئة، السوق المشتركة والنظام الاقتصادي العالمي... الخ. من ناحية اخرى اختفت مصطلحات مثل: الجهاد، دول الاستكبار، الشيطان الأكبر، تصدير الثورة. وقد كانت هناك ادانة واضحة دون ثورية للارهاب: "يدينون بشدة الارهاب في جميع صوره ومظاهره مع الاعتراف بحق الشعوب التي ترزح تحت السيطرة الاستعمارية أو الاجنبية أو الاحتلال الاجنبي في تقرير مصيرها، ويعلنون ان قتل الابرياء يحرمه الاسلام ويؤكدون التزامهم باحكام مرونة سلوك منظمة المؤتمر الاسلامي لمكافحة الارهاب الدولي، وتصميمهم على تكثيف جهودهم لابرام معاهدة حول هذه المسألة. ويدعون المجتمع الدولي الى الامتناع عن توفير الملجأ للارهابيين، والمساعدة في تقديمهم للعدالة واتخاذ كل التدابير اللازمة لمنع أو تفكيك الشبكات الداعمة التي تساعد الارهاب بأي شكل". كما لاحظ المراقبون عدم دعوة أي جماعات متشددة رغم محاولة عدد من الجماعات حضور هذا اللقاء كمراقبين. فلقد كان الموقف واضحاً وحاسماً من الارهاب. لقد ارتبط الموقف من الارهاب بدعوة للحوار بديلا عن صراع الحضارات وكذلك تقديم الصورة الايجابية عوضاً عن الصورة السلبية التي ساهم في نشرها - سابقاً - الثوار الايرانيون في بداية الثورة والمجاهدون الافغان والجيش الاسلامي في الجزائر والتكفير والهجرة في مصر والجبهة الاسلامية في السودان وغيرها من جماعات العنف التي خرجت من عباءة مفكري المجتمع الجاهلي والحاكمية لله. لقد اختلف الآن الوضع تماماً وتبرأ الجميع من الثوار والمجاهدين بل اصبحوا عبئاً ثقيلاً. وجاء في اعلان طهران: "ويعربون عن قلقهم ازاء الاتجاهات التي تصور الاسلام على انه يشكل تهديداً للعالم ويؤكدون ان الحضارة الاسلامية تقوم على نحو ثابت وعلى مدى التاريخ على التعايش السلمي والتعاون والتفاهم". وفي توصية اخرى: "يكلفون فريق الخبراء المعنى بصورة الاسلام باعداد وتقديم خطوات عملية وبناءة لمواجهة الدعاية السلبية وازالة وتصحيح كل صور سوء الفهم وتقديم الصورة الحقيقية للاسلام، دين السلام والحرية والانعتاق". ومن الجلي ان الدول الاسلامية جميعها ستولي اهتماماً كبيراً في المستقبل لتحسين صورتها أي بالاندماج اكثر في النظام العالمي الجديد بتبني كثير من متطلبات التعاون والتعايش حسب الرؤية العالمية لهذه المرحلة التاريخية. تقدم الحديث عن دور المرأة ليصبح من اولويات هذه الدورة لمؤتمر القمة الاسلامية وهذا تطور جديد اقتضته ظروف ان لم تكن ضغوط خارجية. فهذه الاضافة لم تكن واضحة في المؤتمرات السابقة، ولكن هذه المرة نجد توصية وكأنها صادرة عن مؤتمر بكين للمرأة: "يؤكدون احترامهم الكامل لكرامة المرأة المسلمة وحقوقها، وتعزيز دورها في كل اوجه الحياة الاجتماعية وفقاً لمبادئ الاسلام، ويطلبون من الامانة العامة تشجيع وتنسيق مساهمة المرأة في أنشطة منظمة المؤتمر الاسلامي ذات الصلة". وتشهد ايران تحولات واضحة في نظرتها وممارساتها لوضعية المرأة، فبالاضافة للمسؤوليات السياسية والادارية التي أوكلت الى النساء في جمهورية خاتمي، بدأت المرأة في المشاركة ثقافياً واجتماعياً. وقد اثارت اهتمامي الدورة الاولمبية أو بطولة الالعاب النسائية التي نظمتها الحكومة الايرانية وشاركت فيها 23 دولة اسلامية في 13 كانون الأول الماضي. وقد رأست اللجنة المنظمة للبطولة فايزة رفسنجاني ابنة رئيس الجمهورية السابق والتي تعد احدى البطلات الايرانيات في السباحة. وضمت الدورة الرياضية جميع الالعاب كالكاراتيه والسباحة والتنس وكرة السلة واليد... عدا كرة القدم والملاكمة. مثل هذه الدورات الاولمبية المصغرة يصعب ان نجد لها أي تأصيل أو مرجعية في الدين الاسلامي ولكنها ضرورات محدثة تماماً نحاول - كمسلمين - اللحاق بها لكي لا نوصف بالتخلف. وهذه بعض آليات العولمة القادرة على الاختراق مهما كان التحصين. ومن الاهتمامات الاسلامية الجديدة اندراج مفهوم جديد مثل "المجتمع المدني" في اجندة مؤتمر اسلامي. فقد اكد محمد خاتمي في مؤتمر صحافي عن القمة على الدعوة الى مجتمع مدني اسلامي يحترم الحريات، وقال: "نحن ندعو الى مجتمع مدني اسلامي تنبع تعاليمه من مدينة النبي ص لا من تجربة اليونان والرومان. ومع ذلك لا مانع لدينا من استعارة بعض انجازات المجتمع المدني الغربي" وأضاف: "نحن نريد الحريات للجميع، وان يتكلم الجميع دون عراقيل أو ممنوعات أو عقبات اللهم الا ما يمنعه القانون أو الدستور. وبالتالي نريد مجتمعاً مدنياً بديلاً عن الفوضى وحكم الاستبداد". ويطرح فكرة مهمة حول فردية الانسان المسلم والذي يدمج عادة في الامة والوحدة والاجماع خشية الفتنة والشقاق، ويقول بأن الفرد يكرم وتصان حقوقه وتعزز وتحترم، وتقوم الدولة على خدمته وليس العكس. التفاصيل المؤتمر انظر الشرق الاوسط 15/12/97 ومجلة العالم يوم 20/12/97. أدرك المؤتمرون - دون لبس - ان قوة الآخر وهو الغرب، لا يمكن مواجهتها أو حتى التعايش معها بندية، الا من خلال استخدام نفس الادوات وهي هنا: العلم والتكنولوجيا والمعلومات والاقتصاد. وهكذا جرت الدول الاسلامية الى ميدان العولمة الحقيقي لتحارب معركتها حسب شروط اللعبة العالمية الجديدة. لذلك كان طبيعياً ان تختفي الشعارات الضخمة الخاوية وان تنزوي التهديدات عالية الصوت والعاجزة. تقول احدى التوصيات: "يؤكدون على الحاجة الى التنسيق في ما بين الدول الاعضاء لتعزيز دورها ومشاركتها في النظام الاقتصادي العالمي وفي عمليات اتخاذ القرارات الاقتصادية الدولية". وفي توصية اخرى "يدعون الدول الاعضاء الى القيام بجهد جماعي نحو تحقيق زيادة جوهرية من التجارة والاستثمارات داخل العالم الاسلامي، وتطبيق الصكوك بما في ذلك تلك التي تتقرر في اطار الكومسيك بغية التوسع في التبادل القائم للبضائع والخدمات ونقل التكنولوجيا والخبرة". ويلاحظ ان فكرة حوار الحضارات تجد الآن قبولاً لدى الدول الاسلامية وبعض المفكرين الاسلاميين، اذ تحفل ادبيات حديثة بحوار جاد بالذات في ما يتعلق بمفهوم العولمة وما بعد الحداثة وغيرها من الافكار والنظريات والاتجاهات التي يموج بها الغرب. ان عملية التفاعل الحضاري الراهنة تفرض قدراً من العلمنة والتاريخية في التعامل مع الذات ومع الآخر. لذلك عندما نستخدم ادوات الغرب في مواجهته او في تفكيك المكونات السلمية في ثقافته او ثقافاته تكون جرثومة العولمة والعلمنة قد تسللت الى حصننا. وقد نظن خطأ اننا نخترق الآخر ولكن نكون - لاشعورياً - قد غيرنا من انفسنا. قد نسمي ذلك الاجتهاد أو التجديد أو الواقعية أو فقه الضرورة والمصالح. وما يحدث حقيقة، هو مزيد من التأثير والقبول والتكيف. قد انعكست هذه التحولات الثقافية على الحركات الاسلامية، فهناك انحسار واضح في السياسي وتراجع التطرف وما الارهاب العنيف الحالي الا ميكانزم دفاع عن النفس وتأكيد للبقاء والاستمرار. ويشهد الفكر الاسلامي عموماً والحركات الاسلامية في مجملها توجيهاً تكيفياً وتصالحياً. وهذا ما يمكن متابعته في وقائع مؤتمر القمة الاسلامية، ودعوات حزب الوسط الاسلامي في مصر، ومحاولات وفاق الجبهة الاسلامية القومية في السودان، ومنظمة العمل الاسلامي في الأردن ومهادنة الاصلاح في اليمن. كذلك الاهتمام اكثر بقضايا فكرية واكاديمية مثل اسلامية المعرفة، وظهور نشرات مثل "اسلام 21" في لندن، وتعامل هيئات غير حكومية اسلامية مع مؤسسات تمويل اميركية وغربية... الخ تكثر امثلة التعايش عوضاً عن المواجهة والقبول بالعالمية على حساب خصوصية ضيقة رغم ان بعضها مطلوب للبقاء والتمايز.