عرف سمبسون في كتابه "تأملات المنفيين" الذي صدر في لندن مؤخراً "المنفي" بأنه "الشخص الذي لا ينسجم مع مجتمعه". ووصف معاناة الملايين ممن فرض عليهم العيش خارج اوطانهم، او ممن ألقت بهم النظم السياسية خارج حدودها، كما قسم المنفيين الى ست مجموعات، حسب مواصفات مشتركة بينهم: المنفي السياسي، والديني والمغامر والملاحق قانونياً والهارب من نظام المطبخ. فأي من هذه المواصفات تنطبق في الواقع على العراقيين المنفيين في بريطانيا؟ وما هي العوامل التي دفعت بهم لترك بلادهم؟ وما هي المشاكل والصعوبات التي يواجهونها في المنفى؟ ثمة اسباب سياسية قاهرة وظروف اقتصادية غير طبيعية نشأت عنها، دفعت وما تزال بملايين العراقيين الى ترك وطنهم والهروب الى اقرب منفى. ولهذا لا يمكن ادراج المنفي العراقي الا ضمن مجموعة سمبسون الاولى وهي "المنفي السياسي". يعيش المنفي السياسي دوما محبطاً، منسلخاً عن ذاته وعن دائرة عمله ونشاطه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو ما يسبب له صعوبات ومشاكل مادية ومعنوية، ويولد عنده صراعاً اجتماعياً. فعندما يجبر المرء على ترك وطنه وأهله وعمله ويضطر الى قطع علاقاته مع اقربائه وأصدقائه وكذلك مع محيطه الاجتماعي والثقافي، فليس من السهل عليه تعويض ما فقده، وبخاصة حين يعيش في مجتمع مختلف عن مجتمعة تقريباً، له لغته وقيمه وتقاليده ونمط حياته وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية وكذلك له مؤسساته ونظمه الخاصة به. وهذا المحيط الجديد يخلق لديه توترات اجتماعية ونفسية تؤثر على حياته واستقراره وتولد عنده تأزماً نفسياً وتناشزاً اجتماعياً ثقافياً قد يؤدي به الى ما ندعوه بالاغتراب. يصبح المرء مغترباً عن المجتمع الذي يعيش فيه حين يجد بأن هذا المجتمع لا يوفر له قدراً كافياً من الراحة والطمأنينة والاستقرار ولا يشبع حاجاته المادية والمعنوية التي تؤمن له حياته. ومن المعروف ان العراقيين لم يعرفوا الهجرة والتهجير، لا للعمل ولا للتجارة ولا للجوء السياسي ولم يتعودوا على مغادرة بلادهم وفراق اهلهم الا نادراً، وإنما اضطروا الى ذلك لأسباب سياسية قاهرة. فقد بدأت موجات الهجرة والتهجير منذ اكثر من عقدين، وبخاصة منذ بداية الحرب العراقية - الايرانية وممارسة النظام العراقي سياسة قمعية شديدة القسوة، وشنه حربين مدمرتين هدمت البنية التحتية وخربت البنية الفوقية وحطمت انسانية الانسان وكرامته ودفعته الى الهرب الى منافي العالم، حتى وصل عدد العراقيين المهاجرين والمهجرين اليوم الى حوالى ثلاثة ملايين، ينتشرون في عدد من دول العالم، من استراليا ونيوزيلندا شرقاً حتى كندا وبوليفيا غرباً، حسب احدث الاحصائيات المتاحة عندنا. كما تخطى عدد افراد الجالية العراقية في بريطانيا وحدها 150 الف شخص وأصبحوا اليوم في المرتبة الرابعة بالنسبة للجاليات الاجنبية فيها. هذه الوضعية ليست حالة طبيعية ولم تنشأ عن طريق الصدفة والرغبة والطموح للحصول على الثروة والمال والجاه، وإنما نشأت كحالة قسرية، جديدة وطارئة، وهي ما جعل العراقي في المنفى قلقاً ومحرجاً غير مستقر على حال، ومتأرجحاً بين ماض محبط وحاضر مقلق ومستقبل غامض. انه يعيش حالة تأزم وازدواجية، يتحول فيها المنفى الى وطن ثان بعد ان اصبح الوطن الاصل منفى كبيراً مهدماً ومخرباً، الانسان فيه منبوذ ومحاصر من كل مكان، ليس له حق في ان يفكر او يتكلم ويطالب بحقه، وليس له اي هامش من الحرية يمكن ان يتحرك فيه، وحيث يتحول التعبير عن الخوف والعجز والاغتراب الى شكوى صامتة، والهروب الى اقرب منفى، مهما كان ويكون، وهكذا يتحول المنفى الى وطن جديد. والمفارقة ان المنفي يبقى موزعاً بين منفيين مختلفين، واحد اضطر الى هجره وآخر اجبر على العيش فيه، وهي حالة قلق وإرباك تخلق مشاعر احباط تفتقد الثبات والاستقرار وتساعد على تعميق الشعور بالذنب من جهة واللامبالاة من جهة اخرى، وفي الوقت ذاته، تقوي الحنين الى الوطن. وعندما تكون الخيارات قليلة، فليس امام المنفي سوى الرضا والقبول بالأمر الواقع والاندماج في المجتمع الجديد، بعد تخطي كثير من العقبات والصعوبات، او التقوقع على الذات داخل شرنقة منفاه. هذه الوضعيات الحرجة والمحرجة تولد صراعاً اجتماعياً ليس بسيطاً. وحين يكبر المنفى وينمو يتعمق الصراع ويتضاعف الاحساس بالاغتراب، وكلما يضعف الأمل بالعودة الى الوطن، تزداد المعاناة وتكبر المشاكل وتتوالد وتتعقد، وتصبح مقاومة الامور الصغيرة، وحتى التافهة منها، مضنية. ومع ان المنفى قد يكون ارحم من "الوطن المنفى"، غير ان الانسان يبقى فيه وحيداً وغريباً يبحث عن ذاته ويردد المثل الشعبي المعروف "من شاف الموت رضي بالسخونة"، وهو مثل شعبي بليغ يعبر عن حالة من يتعرض للموت فيقبل بالمرض صاغراً وهو نفس معنى المثل العربي المعروف الذي يختصر المعاناة: "كالمستجير عن الرمضاء بالنار". ان تحليلاً سوسيولوجياً لحالة المنفي والمنفى وما يلقاه المهاجر من قلق ومعاناة مستمرة تسببها التغيرات التي تصاحب حياته والعقبات التي تقف امامه والصعوبات التي تواجهه، وبخاصة في حالة التهجير القسري، بالاضافة الى اختلاف انماط العيش والسكن واساليب العمل والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بقيم ومعايير وتقاليد مختلفة تفرضها الحياة في بريطانيا وسوقها الاستهلاكية وما تلعبه وسائل الاتصال والدعاية والاعلان وكذلك اساليب اللهو والمتع المادية وما تحركه في دوافع ورغبات وتثيره من آمال وطموحات من شأنها ان تخلق تحديات تضع امام المرء تساؤلات عديدة، ترتبط بالوطن والمجتمع والهوية وتحديد المستقبل وامكانات الاندماج في المجتمع الجديد. فالمنفيُ انسان "حدّي" بالمفهوم السوسيولوجي يعيش حالة قلق دائم، وبخاصة قبل اندماجه في المجتمع الجديد. فهو على حافة حدود حضارتين او ثقافتين مختلفتين واحياناً متناقضتين، اختلافهما يكفي لأن يكون لدى الشخص تناشز في طرق العمل والتفكير، وازدواجية في السلوك والعلاقات الاجتماعية التي ترتبط بمفاهيم الحرية والديموقراطية والفردية وكذلك بالعادات والتقاليد العائلية والعشائرية وغير ذلك. ان الاختلاف بين حضارتين او ثقافتين، شرقية تقليدية وعربية - اسلامية ذات قيم وتقاليد، لا تختلف فحسب، بل تتناقض في كثير من الاحيان مع عناصر حضارة غربية - ليبرالية، ومادية - تقنية، بما يولد صراعاً وتناشزاً اجتماعياً وثقافياً، بسبب عدم وجود اطار مرجعي واحد يمكن ان يعود اليه الفرد ويتوحّد فيه بسهولة. ومن اشد الصراعات الاجتماعية وأكثرها تعقيداً التعارض بين نوعين من القيم الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والاخلاقية، وهو تعارض يظهر بشكل خاص عند الأشخاص الذين يحملون معهم قيم مجتمع ابوي، عشائري، تقليدي، ويضطرون للعيش في مجتمع ذي قيم ليبرالية، ولكنه بالنسبة اليهم مجتمع منفتح ومغلق في آن. ومن اهم المشاكل التي يعاني منها العراقيون في المنفى مشاكل العمل. فمن الملاحظ ان كثيراً من افراد الجالية هم اما من ذوي الشهادات العالية الذين لا يجدون عملاً حسب اختصاصهم - وحسب استبيان المنتدى العراقي، فإن 53 في المئة منهم عاطلون عن العمل - او من اولئك الذين ليس لديهم اختصاص مهني او خبرة كافية تؤهلهم للحصول على عمل مناسب، الى جانب ارتفاع نسبة البطالة ومستوى المعيشة في بريطانيا وتفضيل المواطنين على الاجانب في كثير من المهن وضعف اللغة والعلاقات الاجتماعية والاندماج في المجتمع وغيرها من المشاكل. والحال ان عدم الحصول على العمل يشكل احدى آليات الاحباط واثارة المشاكل الاجتماعية، مثلما يقف عائقاً امام التحصيل العلمي والتخصص المهني. ومن اهم العقبات التي تواجه المهاجر اللغة، التي هي وسيلة التفاهم والاتصال والتفاعل الاساسية، فبدونها لا يتمكن المرء من الدخول الى المجتمع الكبير الا من ابوابه الخلفية، كما لا يمكنه القيام بإشباع حاجاته اليومية ومعاملاته الرسمية بيسر وسهولة، اضافة الى ما تسببه من مشاكل خلال التعامل مع الآخرين، وبخاصة حين يسيء البعض فهمها وتفسيرها وكذلك استخدامها.