وأخيراً، وبعد خمسين سنة من زرع نفسها في منطقة لفظتها بعناد تفكر إسرائيل جدياً في رسم خريطة لكيانها الذي ظل دون حدود ثابتة طوال نصف القرن الماضي، إذ أنه عند إعلان الدولة رفض دافيد بن غريون أن يعلن عن حدود الدولة الوليدة، لأنه اعتقد أن هذه الحدود متروك أمر تحديدها لجيش الدفاع الإسرائيلي "تزاحال" فأقصى مواقع يمكن أن يصل إليها هي الحدود المرغوبة. وبالرغم من ذلك سارعت كثير من الدول للاعتراف بدولة بلا حدود، كما هو معتاد في أمر الدول الأخرى، ومنذ هذا الاستثناء الفريد ظلت إسرائيل مستثناه في نظر كثير من الدول في اتباع قواعد القانون الدولي واحترامها حتى وهي تمارس استخدام القوة في تحدٍ واضح للشرعية الدولية. ولكن ما الذي جعلها تفكر أخيراً في رسم خريطة بحدود بدلاً من بقائها واقعاً في المنطقة بلا حدود طوال تلك الفترة السوداء من تاريخ منطقتنا؟، لا شك أن ذلك راجع إلى الرفض العربي وإلى المقاومة العربية، وبالرغم من كل ما يقال فإن التاريخ سيدون بين صفحاته أن الأمة العربية قاومت ما وسعها من جهد هذا العدوان الصارخ، وأنها أعادت بناء نفسها عقب كل هزيمة لاقتها في مسارح الحرب أو مجالات السياسة لتستأنف السير من جديد لتحقيق غرضها، وبذل آلاف من الشهداء العرب أرواحهم في سبيل استعادة الحقوق الضائعة... هذه المقاومة العتيدة والرفض المستميت جعلها تعرف حقيقة حجمها، وجعلت واحداً من زعمائها هو شمعون بيريز يكتب في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أنهم وصلوا "إلى قناعة بأنهم لا يمكنهم قهر العرب بالقوة، وأن العرب بدورهم وصلوا إلى قناعة بأنهم لن يقهروا إسرائيل بالقوة، وقد أدى هذا الشعور المتبادل بأن نجلس معا لمبادلة الأرض بالسلام"، وهذا يعني الاتفاق على رسم الحدود والاعتراف المتبادل لها لفرض الاستقرار المنشود. ولم يكن شمعون بيريز وحده هو الذي وصل إلى هذه النتيجة، بل نجد أن بنيامين نتانياهو نفسه وصل إليها ولكن عن طريق آخر هو الخوف من المستقبل، ومن يطلع أيضا على أفكاره والتي دونها في كتابه "مكان تحت الشمس" بجد نفسه أمام رجل خائف حتى العظام من المستقبل، فمن أول الكتاب إلى آخره يشعر القارىء أنه أمام رجل ترتعد فرائصه من العرب، الأمر الذي دفعه لأن يطالب بالأمن ولو على حساب السلام، وهو على ما هو عليه من قوة سواء في الروادع النووية أو فوق التقليدية أو التقليدية.. ولذلك فنحن أمام رجل جسمه جسم مارد وقلبه قلب فأر فقوته الزائدة لم تعوض خوفه العميق من المستقبل، ولم يهده هذا التناقض إلى الحل السليم الذي يزيل عنه خوفه ويعيد الهدوء إلى نفسه. ولكن ما هو الأساس الاستراتيجي لهذه الخريطة المرتقبة يا ترى؟، قد يدهش القارىء أنه رغم وجود خلافات كثيرة وفي مجالات حيوية مثل الأرض والمياه وأمور السيادة، إلا أن اتفاقاً استراتيجياً بين الجانبين العربي والإسرائيلي أصبح موجوداً!!، فقد انتهى الأمر بالطرفين، كما يحدث أمامنا بأن الصراع بينهما أصبح صراع حدود وليس صراع وجود، ومعنى ذلك أن الطرفين قد اتفقا على أن يعيشا مع بعضهما البعض عيشة الجوار، وأن الرغبة المتبادلة في البقاء أصبحت موجودة وقائمة، كما أن الاتفاق الاستراتيجي، كما نراه أمامنا أصبح يشمل العودة إلى مشروعات التقسيم التي بدأت في الثلاثينات والأربعينات. بدأت فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية عام 1937 بمشروع تضمن أن يكون عدد السكان اليهود في الدولة اليهودية 304900 وعدد السكان الهروب بها 700،294 ومساحة الاراضي الزراعية بالدونم 000،098،3، اما الدولة العربية فعدد السكان اليهود بها 7200 وعدد السكان العرب 200،482 ومساحتها بالدونم 000،047،3، وكان أهم ما هدف إليه مشروع بيل هو تحويل الوطن القومي الذي ورد في وعد بلفور الى دولة هودية وووجه المشروع بثورة عارمة من جانب العرب ألجأت بريطانيا الى التراجع عن المشروع ولسنا في سبيل ذكر المشروعات الأخرى التالية التي لم تجد لها طريقاً للتنفيذ حتى صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947 والذي أقر تقسيم فلسطين الى دولتين عربية وأخرى يهودية أيضا، الدولة العربية مساحتها 88،42 في المئة من مساحة فلسطين، وتشمل 547 قرية، 17 مدينة من بينها عكا ويافا والناصرة واللد والرملة واسدود والمجدل وغزة، اما الدولة اليهودية فمساحتها 47،56 في المئة من مساحة فلسطين وتشمل 485 قرية، 19 مدينة، أما القدس ومساحتها 65،0 في المئة من مساحة فلسطين، فقد نص المشروع على جعلها كياناً منفصلاً خاصاً للوصاية الدولية، وقد صدر القرار بموافقة 33 دولة ومعارضة 13 وامتناع 11 دولة، ومما يذكر ان المشروع كان يعطي اغلب النقب للعرب إلا أن وايزمان رئيس الوكالة اليهودية في تلك الفترة ألح في مقابلة الرئيس هاري ترومان أثناء عرض المشروع على الأممالمتحدة وطالبه بأن يكون النقب من نصيبهم ولم يقصر الرئيس الأميركي واتصل بمندوبهم في الهيئة الدولية تليفونياً وأقره بتنفيذ المطلب اليهودي وأسقط في يد المندوب الأميركي لأنه كان في نفس الوقت يدافع عن المشروع الأصل بهمة ونشاط بناء على تعليمات وزير الخارجية إلا أنه نفى تعليمات الرئيس حتى لو تمت من وراء ظل وزير الخارجية فهذا يحدث كثيرا عندنا وعندهم أيضا! وقامت حرب 1948 بين الدول العربية واسرائيل وتولى قيادة الجيوش العربية المشتركة الملك عبدالله ملك شرق الاردن وكان رئيس اركان حربه الجنرال البريطاني باجبت جلوب باشا وكانت نتيجة تلك الحرب التعسة فقد الفلسطينيين معظم الاراضي التي كانت مخصصة لهم بموجب قرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل، وكان اول من اعترف بالدولة الجديدة الاتحاد السوفياتي الذي سقط بعد ذلك ولخلل وسط زلزال البيروسترويكا، والولاياتالمتحدة الاميركية التي مازالت تحارب الآمال العربية وحقوقها بكل همة ونشاط، وبذلك فما تعذر تنفيذه على مائدة المفاوضات تم تحقيقه على مسارح العمليات، فالدول العظمى تصر على تحقيق اغراضها حتى لو طال الوقت لأن المحافظة على الغرض هي من اهم العوامل التي تقيم او تسقط الاستراتيجيات. ولعل من المفيد ان نسترجع حكاية شاهدتها في اوائل الخمسينات، حينما كنت استاذا في كلية اركان الحرب المصرية وكان من عادة الكلية ان تقوم هيئة التدريب مع طلبة كل دورة بزيارة خارجية وخصص ذلك العام لزيارة بعض بلاد المشرق العربي وحل رحالنا في عمان وجاء غلوب باشا وهو يلبس "الدشداشة والعقال" ليلقي علينا اقصر محاضرة شهدتها، إذ لم تستغرق إلا دقائق محدودة. رحب الرجل بنا بلغة عربية فصحى ثم نظر الى ثلاث خرائط مغطاة لا تبين ما تحتها مصفوفة على حواملها ثم رفع الساتر من على الخريطة الاولى فظهرت خريطة فلسطين بحدودها الكاملة ايام الانتداب اي حتى حرب 1948، واشر بمؤشر انيق في يده ليؤكد على الحدود، ثم امر احد مساعديه بالكشف عن الخريطة الثانية فاذا هي توضح مشروع التقسيم تبعا لقرار هيئة الاممالمتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947، وبنفس الثقة بالنفس اشار بمؤشره الانيق ليؤكد على الحدود المقترحة لكل من الدولتين العربية والاسرائيلية وبطريقة مسرحية كحاوٍ يريد ان يخرج ارنبا من جيبه او حمامة من اذن احد المتفرجين، امر نفس المساعد بكشف ستار الخريطة الثالثة وهي توضح الخطوط التي انتهت اليها القوات بعد ايقاف النيران، واوضح ان الجيش الذي تولى قيادته اثناء الحرب هو الجيش الوحيد الذي استولى على المساحة التي حددها مشروع التقسيم على الارض، ثم طلب منا توجيه اي اسئلة ولكن الصمت سيطر على الجميع، وهنا تأهب الجنرال ليغادر قاعة المحاضرات يحيط به نفر من هيئة اركان حربه ولكنه عاد كمن نسي شيئاً مهماً ليقول بالعربية الفصحى اياها: نحن لم نتوقف عن القتال الا لأن ذخيرتنا نفدت وطلبنا من الاخوة في مصر ان يمدونا بالذخيرة لكنهم اعتذروا! ولنعد الآن بعد التاريخ والذكريات الى الواقع، اي الى الجغرافيا والخرائط لنحاول ان نتخيل خريطة فلسطين في السنوات القليلة القادمة تبعاً للتصريحات والتعليقات التي تتناثر هنا وهناك ولنبدأ اولا بمقدمة مهمة هي ان تشدد رئيس الوزراء الذي يعبر عنه دائما بكلمة "لا" وكأنه لا يعرف من كلمات الحوار الا اياها ليس نابعا فقط من شعوره بالتفوق الكاسح في موازين القوى ولكنه ينبع ايضا من الخوف من المستقبل، ومن يقرأ كتابه "مكان تحت الشمس". يشعر بأنه خائف تماما من تقلبات الدهر "وعذر العرب" وعلى أي حال فإن غزة منطقة يمكن التساهل فيها من ناحية اعادة الانتشار لما تسببه لهم من متاعب جعلت اسحاق رابين قبل موته يتمنى ان تغرق بمن عليها فتريح ونستريح، وربما يكون في نية اسرائيل تشجيع تعامل القطاع مع القاهرة أكثر من تشجيع تعامله مع الأردن ولو الى حين، أما بخصوص الضفة الغربية فهي التي تشكل مشكلة حقيقية بالنسبة لهم فهي مخزن مضمون للمياه كما تشكل في الوقت نفسه، خاصة مرتفعاتها الشرقية، منطقة حيوية من ناحية الدفاع لأي تهديد من الشرق وتعمل ايضا كنقط ملاحظة تسيطر على الأرض المنبسطة حتى البحر، ويرفض بنيامين نتانياهو تنفيذ الانسحابات التي اتفق على أن تتم على ثلاث مراحل، وصرح اول الأمر بأنه لن يجري انسحابات جديدة، وأن ما اتفق عليه مع غيره لا يربطه بأي التزام، ثم عاد ليعرض إعادة الانتشار بالتنازل عن 2 في المئة من مساحة الضفة، ثم عاد ليعرض الآن الانسحاب من 8 في المئة من المساحة، الأمر الذي نال استحسان الولاياتالمتحدة مما جعلها تدعو ياسر عرفات لبدء المفاوضات من جديد حتى يمكنها ان ترفع النسبة الى 10 أو 12 في المئة، والفلسطينيون لا يقبلون هذه النسبة، إذ يتمسكون بمضمون القرار 242 الذي يجعل نسبة الأرض التي يطالبون بها هي 5،23 في المئة من مساحة الضفة بعدما اعتبر القرار الذي وافق عليه الجميع أن الأرض الفلسطينية غرب الخط الأخضر ضمن مساحة دولة اسرائيل، إذ كانت هذا حالها قبل حرب 1967 وعند صدور القرار 242، ومعنى ذلك انه إذا أخذ برفع النسبة عند بداية المفاوضات بتدخل اميركي فإن الخلاف لن يتعدى 10 في المئة بين وجهتي النظر الفلسطينية والإسرائيلية، ما يمكن التغلب عليه. وهكذا تصبح السياسة سوقاً تجارية كبرى تباع فيه أملاك الدول وتشترى بأثمان بخسة، علماً بأننا كعرب نؤمن بأن الأرض كالعرض، ولكن هذه الحقائق تتجزأ في أزقة السوق الدولية تحت ضغط من الخلل في موازين القوى ومصالح الدول العظمى. واذا انتهى الأمر بالاتفاق على تفاصيل قطاع غزةوالضفة الغربية فإن هذا سيمهد الطريق الى تشكيل الدولة الفلسطينية ناقصة السيادة سواء من ناحيتي السياسة الخارجية والدفاع وهذا بدوره سوف يفتح الطريق الى بناء المثلث الذهبي من اسرائيل والاردنوفلسطين ويؤيد ذلك ان ملاحق اتفاقية 13 ايلول سبتمبر 1993 ركزت على الموضوعات الاقتصادية اكثر من تركيزها على الموضوعات السياسية وعالجت في الملحق الرابع كيف يمكن الانتقال الى تعاون اشمل في المنطقة عن طريق المشروعات الاقتصادية والبنية الاساسية، وكذلك فإن التعاون النشط الذي يعلن عن بعضه ويخفى اغلبه يسير بنشاط وهمة، حتى الخلافات بينهما تحل بسرعة، اما عن القدس فقد يكون حلها عن طريق توسيع محيطها البلدي او عن طريق المجالس الدينية المشتركة مع عدم المساس بالسيادة. وقد تستغرق هذه المرحلة حتى عام 2000 او اكثر قليلاً يبدأ بعدها رسم خرائط الجولان عن طريق- تبعا لما يقولون- الانسحاب "في" الجولان وليس "من" الجولان مع وضع دوريات مشتركة في جبل الشيخ وتأمين منابع مياه نهر الأردن مع انسحاب القوات السورية الرئيسية غرب دمشق وتحديد قوات الصواريخ والمدرعات بنسبة يتفق عليها. كذلك يتم الانسحاب من الشريط الجنوبي في لبنان، إذ من السهل تأمينه من داخل اسرائيل من الجليل الأعلى. هذه هي الخريطة الإسرائيلية التي عادت بنا جميعا الى مشروعات التقسيم، ولكن هل ستنفذ هكذا؟ ممكن إذا استمرت الإرادة العربية غائبة. ام يمكن إدخال تعديلات عليها على أساس تغليب توازن المصالح على توازن القوى؟ ممكن اذا تحركت الارادة العربية في كل المجالات. ولكن السؤال الأكثر أهمية هو هل أن تقسيم الأرض والسكان بطرق صناعية كالتي ينفذها شارون يمكن ان تستمر وتحقق الاستقرار المنشود؟ لا أظن، لأن بناء الدولة غير العنصرية ذات العاصمة الواحدة هو الحل الذي يرضي الأجيال الحالية والقادمة، لأنه يبني الشرق الأوسط الجديد الذي حارب من أجله جيلنا، والذي قد تحارب من أجله أجيال لاحقة لا يرضيها ما حدث أيام الآباء.