تبدو السينما العربية في حال من الرثاء وتستدعي من المتعاطفين معها التفكير في مصادر جديدة للتمويل، تنقذها من اشكالية الانتاج التي تدور فيها. فالقطاع العام على الأغلب سحب يده، وان لم يفعل كما في دولة مثل سورية، فهو يشكو من شحة المال التي بالكاد تنتج فيلماً في السنة، ومن عدم القدرة على التوزيع، ما يجعل الأفلام أحياناً حبيسة نفسها سنوات قبل ان يراها الجمهور. اما القطاع فشروطه على ما يبدو تطال مضمون العمل وفنيته، فهو مال يبحث عن نجاح كبير في شباك التذاكر، ومردود عالٍ مقابل ما أنفقه. الربح في السينما ليس عيباً. فأي مبالغ يجنيها الفيلم تعود بالفائدة على مغامرة سينمائية اخرى، انما المشكلة في رغبة بعض المنتجين اختصار الوقت والانفاق معاً، وهذا ليس في صالح أي عمل فني. لماذا لا تدخل التلفزيونات العربية في المغامرة السسينمائية وقد سبقتها الى ذلك محطات أوروبية كثيرة؟ أكثر الأمثلة وضوحاً على دعم تلفزيون لسينماه الوطنية القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني. فمنذ تأسيسها قبل خمس عشرة سنة، تغير مفهوم العلاقة بين السينما والتلفزيون بشكل عام، ليس فقط بسبب تحول هذا الجهاز الى مستهلك منتظم للفن السابع، بحيث أصبحت القناة أحد المصادر الأساسية للثقافة السينمائية في بريطانيا، بل لكونها ساهمت في انتاج مجموعة من أهم وأجمل الافلام البريطانية المعاصرة، مثل "جنون الملك جورج" و"أربع زيجات وجنازة" وغيرهما. رافق تأسيس هذه القناة قسم خاص بالسينما يدعى "فيلم أون فور" أشرف على قراءة النصوص المقدمة من سينمائيين بريطانيين، ليبدو فجأة "حضور الكثير من المواهب على الساحة، وان التمويل وحده كان غائباً"، على حد تعبير المخرج الباكستاني الأصل حنيف قريشي، هذا الروائي والمخرج الشاب الذي تمكن من تقديم فيلمه "غسالتي العزيزة" بفضل هذه المساعدة. لقد أعطت القناة الرابعة دفقة قوية لهذه الصناعة، كما يشهد اسماعيل ميرشانت منتج أفلام المخرج الشهير جيمس آيفوري، الذي حصل وشريكه على دعم لفيلميهما "غرفة بمنظر" و"هاوردز إند". وبمساعدة هذه القناة، انتعشت السينما البريطانية الى حد ما من حال الموات التي كانت تشهدها بسبب شحة الأموال. ولم يكن المهم فقط مجيء المساعدة، بل الطريقة التي قدمت بها هذه المساعدة. فللمرة الأولى لم يعد المنتج أو الممول هو من يقرر صلاحية الفيلم للانتاج، بل ما هو السيناريو ومن هو المخرج؟ ولقد تم تقديم فرص جيدة لعشرات الممثلين الذين حصلوا على أدوار رئيسية من دون ان تتوافر فيهم المقاييس التقليدية للنجم أو النجمة. كما اتسع افق موضوعات الأفلام خارج محدودية القصص التاريخية، ليشمل انفتاحاً على مشكلات المجتمع البريطاني، وانتجت أفلام ذات شخصية مميزة، غير منسوخة عن النمط الهوليوودي. لا تشمل المساهمة التي تقدمها القناة بالضرورة مجمل تكلفة الانتاج، فهي جزئية أحياناً، كما تم مع فيلم "أربع زيجات" الذي حصل على ربع التكلفة. وكانت المراهنة عليه صحيحة، فقد حقق هذا الفيلم خمسة وعشرين مليون دولار من عروضه في العالم. وفي أحيان أخرى يكون الدعم المالي كلياً، كما هي الحال مع فيلم "مراقبة القطارات" الفيلم الناجح الذي رصد أضعاف تكلفة ميزانيته المتواضعة! تتصاعد ميزانية القناة المخصصة لانتاج الأفلام، سنة بعد اخرى، بفضل الأرباح التي تعود عليها من الانتاج والتوزيع. فما يقارب العشرين فيلماًً ستتقاسم مبلغ 28 مليون جنيه هذا العام، بينما سيرتفع المبلغ المخصص للعام 1999 الى 32 مليون جنيه. ولا يعني هذا ان عشرين فيلماً ستضرب شباك التذاكر، لكن التراكم الكمي في النهاية يقدم قفزة نوعية، من خلال اتاحته الفرص لأكبر عدد ممكن من العاملين في هذه الصناعة. من جهة اخرى، أعادت الأفلام البريطانية المنتجة، صياغة العلاقة ما بين التلفزيون والسينما، ليس فقط تجارياً بل فنياً أيضاً. ان انتاج فيلم "اينجيل"، للمخرج نيل جوردان، هو تناول سينمائي لموضوع كان من اختصاص التلفزيون، والمقصود بذلك الاضطرابات في شمال ايرلندا. لقد عادت سياسة القناة الرابعة بالنفع على السينما عموماً، فها هي الأخبار تشير الى قرب انتقال مدير قسم الأفلام فيها الى شركة الانتاج السينمائي الأميركية ميراماكس منتجة فيلم "المريض الانكليزي"، ليدير فرعها في لندن بعد ان اثبت جدارة عالية في منصبه السابق، وقد وعدت الشركة بنقل قسم كبير من نشاطها الى العاصمة البريطانية، ما يعني تدفق المزيد من المال لصالح المشاريع السينمائية. هذا نموذج يحتذى في العلاقة بين المحطات التلفزيونية والسينما. قد نرى يوماً تطبيقاته على المستوى العربي، لكن مع ملاحظة شديدة الأهمية: ان مهام قسم "فيلم أون فور" لم تتعد التدقيق في توافر شروط نجاح السيناريو، أي انه لم يعن بأي شكل كان فرض رقابة فكرية ومفاهيم مسبقة.