اعتمدت فرقة مسرح ألميدا في تقديم "مفتش الحكومة" على الحركة وإبراز التمثيل والتركيز على الكوميديا. أدى هذا الى تقلص المعاني المتوازية لهذه البنية المسرحية، إذ يجد الانسان نفسه وهو مندمج في التمثيل، وخصوصاً الذي يعتمد النبرة العالية في التقمص والأداء، انه يتابع أفكار المسرحية ورموزها التي تجري أسفل العمل. ولا يعي ذلك للمرة الأولى، كأن الضحك والارتخاء والاندماج في الحركة أركان مسهلة ودوافع جذابة لاستسلام العقل الباطن الى أهداف العمل وغاياته. عملية المشاهدة في هذه الحال تظل مزدوجة سواء ادرك الشخص أم لم يعها حتى النهاية. لكن المهم هو الانتقال بين الاثنين، الخطين المتوازيين ليحدث مستوى ضروري من الفهم. التفسير المبالغ به لهذه المسرحية بالذات أيقظ في الذهن معاني قد لا تكون مقصودة... يحدث هذا بسبب عامل الزمن، ويحدث هذا من تأثير الظروف واحتياجات المجتمع، خصوصاً عندما تنتقل المسرحيات الكلاسيكية الى مجتمعات غريبة عنها. "مفتش الحكومة" فيها لغة مسرحية خاصة، انتظرت وصولها الى لندن ليعاد استكشافها. بعد أن قدمت مسرحية "مفتش الحكومة" للمرة الأولى في حضور القيصر في سانت بطرسبورغ العام 1836 اضطر نيكولاي غوغول الى الهرب من البلاد، فقد تحول الفتور تجاه المسرحية الى سلبية ونُظر اليها كونها انتقاداً للحكومة. أثر هذا شديداً على الكاتب الرهيف الحس والخيال لأنه كان يعتقد أن الكوميديا والتعبير عن الحقيقة يسيران جنباً إلى جنب. هجوم النبلاء على المسرحية لم يكن انتقاداً شخصياً للكاتب بقدر ما كان محاولة لحجب ممارسات اجتماعية منتشرة: الرشوة، استغلال النفوذ، والخوف من ذوي السلطة. وإذا كانت لائحة المواضيع التي تتعرض لها المسرحية تطول، فانها ليست بالضرورة عن السياسة بل عن الهفوات البشرية والضعف الانساني أمام الطمع وشتى الاغراءات. هذه الصورة لم تبرز كثيراً في عروض المسرحية المختلفة. إلا أن البريق يعود اليها من حين الى آخر عندما يتم صقل نحاسها بيد خبيرة ورهيفة في آن. استخدمت الفرقة البريطانية مثل هذه العملية في ترجمة جديدة واستخرجت من المسرحية بريقاً، وجعلت الممثلين خليطاً بين اسكوتلنديين وانكليز، فظهر المحتوى الطبقي بارزاً، وبرزت السلطة المبنية على الادعاء والمحسوبية التاريخية في صميم العمل وليس مجرد تفسيرات واستنتاجات يستخلصها المتفرج بعد الخروج من المسرح. نشأ نيكولاي غوغول في اوكرانيا، وبرز ميله الى الشعر وهو لا يزال في المدرسة، لم يتوفق في العثور على وظيفة ادارية بعد ان انتقل الى سانت بطرسبورغ في العام 1828 فنشر قصيدة طويلة في ديوان معتقداً ان الخطوة ستجلب اليه شهرة، وعندما فشل اشترى النسخ ليحرقها جميعاً. لم يفلح أن يصير ممثلاً أيضاً فعاد ليكتب القصة في المجلات، جمعها في ما بعد في كتاب نشره في العام 1831. واشتهر عندما وقف الى جانبه نقاد وكتاب روس فعين استاذاً مساعداً في الجامعة. ثم نشر مجموعتين قصصيتين تدور في معظمهما حول الهرب من الحاضر بأسلوب يجمع بين الرومانسية والواقعية. كما احتوت على قصص تحولت الى كلاسيكيات مثل "مذكرات مجنون" و"المعطف". ويقال ان بوشكين هو الذي أعطاه فكرة مسرحية "مفتش الحكومة". بعد أن ترك غوغول سانت بطرسبورغ عاش في روما 12 عاماً وفيها كتب أشهر أعماله "الأرواح الميتة" رواية ساخرة عن الاقطاعية في روسيا نشرها في العام 1848، وكان يطمح أن يجعلها ملحمة تستمر أجزاء. تغيرت حياته بعد أن مر بفترة جفاف فاتجه الى الدين والروحيات مقنعاً نفسه أنه يستطيع أن يكمل رسالته الاصلاحية من طريق الكنيسة. وعندما عاد من زيارة للأراضي المقدسة في فلسطين وقع تحت تأثير قس أقنعه بالتخلص من الجزء الثاني من "الأرواح الميتة". وتوفي في فراشه من تأثير الصيام بعد عشرة أيام على حرقه الرواية. عندما يصل موظف في سانت بطرسبورغ الى مدينة صغيرة يعتقد المسؤولون فيها انه المفتش الذي ارسلته الحكومة للبحث في ادارة المدينة فيغدقون عليه الحفاوة ويرشونه من أجل ان يسكت على فسادهم. وعندما يرحل الموظف هارباً بالمال يتم الاعلان عن مجيء المفتش الحقيقي فيصاب المسؤولون بصدمة وانهيار. ظهرت الشخصيات غير مقيدة بمجتمع معين وتجاوزت الاسماء والأماكن. وظلت سانت بطرسبورغ رمزاً للمكان المشع والتحضر. وأن أي شخص يأتي منها هو بالتالي متميز عن غيره، أو هكذا ينظر اليه سكان المدن الصغيرة. يشير ديكور البلدة التي يصل اليها الموظف الصغير الى الشعور باللاأهمية... وقد صمم في شكل سفينة غارقة في الوحل، ما أبعد المسرحية عن الايديولوجيات ووضعها في صميم الأحوال الانسانية والحوار والتمثيل. كما ساعد الاقتباس والترجمة الحديثة من اعداد الكاتب جون بايرن على طاقة التمثيل وحيوية الشخصيات. خصوصاً في الفصل الثالث الذي احتوى على تعابير غوغولية حيث وصلت طاقة التمثيل أوجها في مشهد رشوة المسؤولين الموظف ليشتروا صمته عن مقترفاتهم. أحياناً يضيع الانسان في الفرجة وينسى ان هذه الشخصيات لها مقابل في كل المجتمعات، وإن حملت أسماء وأوصافاً مختلفة. The Government Inspector Almeida Theatre - London 0171 359 4404