تقول الحكاية انه حين انتهى تقديم العرض الأول لمسرحية «المفتش العام» للكاتب الروسي غوغول، في سانت بطرسبرغ، ذات مساء من خريف العام 1836، كان في مقدمة الحضور الذين صفقوا للمسرحية طويلاً، القيصر نفسه، الذي ما إن وقف بعد انتهاء التصفيق، حتى التفت ضاحكاً إلى من حوله وقال: «لقد كان لكل واحد نصيبه في هذه المسرحية... بل يمكنني أن أقول إن نصيبي أنا كان اكبر من أنصبة الآخرين...» وكان من الواضح أن القيصر، يعني نصيباً من الانتقاد والإدانة. غير أن ذلك كله لم يترك أي أثر سلبي عليه، بل انه حيّا المسرحية وكاتبها ومقدميها، ما كان له منذ صباح اليوم التالي، رد فعل هائل في البلد، إذ اضافة إلى أن المتفرجين تدفقوا لمشاهدة هذا العمل الذي ينتقد السلطة وبيروقراطيتها، ومع هذا ينال إعجاب رأس البلاد، أسفر الأمر عن مزيد من الجرأة في انتقاد الممارسات البيروقراطية في الشارع العام. ومع هذا، من المعروف أن روسيا كانت في ذلك الحين تعيش، تحديداً، تحت هيمنة ديكتاتورية البيروقراطية والفساد. وموضوع «المفتش العام» كان هذه البيروقراطية وهذا الفساد تحديداً. وهي كانت ثالث مسرحية يكتبها غوغول الذي كان، في ذلك الحين شاباً، ومرتبطاً بالشاعر الكبير بوشكين. ويقال، على أية حال، إن بوشكين كان هو الذي اقترح على صديقه الشاب موضوع هذه المسرحية التي ما إن عرفت حتى أعادت إلى الحياة الفنية والأدبية في روسيا تقاليد المسرح الاجتماعي الانتقادي كما كان أسسه موليير قبل ذلك بزمن طويل، وفي فرنسا بشكل محدد. ومن المعروف اليوم أن مسرحية «المفتش العام» هي الأكثر حضوراً على خشبات العالم، من بين الأعمال المسرحية التي كتبها غوغول كافة. ولربما يصح أن يقال فيها إن جزءاً كبيراً من مسرح الانتقاد الاجتماعي قد خرج من عباءتها، تماماً كما يقال عادة إن الرواية الروسية الحديثة قد خرجت من «معطف» غوغول. في أيامنا هذه، قد يبدو موضوع «المفتش العام» عادياً ولا يثير الكثير من الاهتمام، إلا على صعيد الانتقاد المحلي للسلطة وفساد أهلها. لكنها في أيامها كانت تشكل ثورة حقيقية، في الأذهان، كما في الممارسات الاجتماعية. أما موضوع المسرحية فيدور حول بلدة صغيرة في الريف الروسي يتلقى عمدتها ذات يوم أنباء سرية تفيد بأن ثمة مفتشاً عاماً، يسافر - متنكراً نكرة - من سانت بطرسبرغ، بهدف القيام بحملة مداهمة وتفتيش إدارية في البلدة نفسها. ومن المعروف انه في مثل تلك البلدات الروسية في ذلك الحين كانت زيارة مفتش عام من ذلك الطراز، تعتبر أسوأ ما يمكن أن يحدث للحياة الاجتماعية، طالما أن إدارة البلدات والمدن، كانت فاسدة من أسفل السلم الوظيفي إلى أعلاه، وأن الفساد كان مستشرياً من دون أن يفكر الفاسدون حتى في إمكان أن يطل عليهم، حقاً، ذات يوم مفتش يتحرى أمورهم ويفضحها. وهكذا يشعر العمدة وأعوانه وبقية الموظفين أن ثمة مصيبة آتية، ولا بد - طالما تسللت اليهم الأنباء التي ما كان يجب أن تتسلل، أصلاً - من التحرك سريعاً، تحسباً للأمر. وهكذا تسري الحركة، وتخبّأ الملفات، وتنحّى الوثائق، وتضبط العلاقات الاجتماعية، انتظاراً لوصول المفتش الذي هو - بالنسبة إلى بيروقراطية البلدة - أهم شخص وفي يده شقاؤهم وسعادتهم، طالما أن له من الصلاحيات ما يجعل آراءه قاطعة وأحكامه مبرمة. وهكذا تسوي البلدة كل شيء وتتحسب لكل ما هو متوقع أو غير متوقع. ولكن الذي يحدث في الحقيقة هو ما لم يكن في إمكان احد من أهل البلدة أن يحسب انه يمكن أن يحدث: يصدف أن يصل إلى البلدة، في شكل مبكر بعض الشيء عن الموعد المحدد - تخميناً - لوصول المفتش العام، موظف حكومي شاب غامض، يستأجر غرفة في النزل المحلي. هذا الشاب يدعى خليستاكوف. وهو في حقيقته شاب أرعن انفق أمواله على القمار والنساء والثياب الفاخرة، ويريد هنا أن يختبئ لبعض الوقت ريثما تمضي الأزمة التي نتجت له من ذلك كله. غير أن أهل البلدة لتوجّسهم وخوفهم، يحسبون الشاب المفتش العام المنتظر، ويضعون كل أنواع الاحتياط التي يبديها والتردد الذي يطبع شخصيته، في خانة إمعانه في التنكر والخداع. وهكذا يسرعون إليه متقرّبين منه، واضعين في تصرفه إمكاناتهم وأملاكهم ونساءهم، وهم يحسبون انهم بذلك يكسبون وده ويجتنبون شره. وسرعان ما يدرك الشاب حقيقة سوء التفاهم الذي وقع أهل البلدة ضحية له. ويجد في الأمر فرصة ذهبية لتحقيق مكاسب وامتيازات ما كانت لتخطر له في بال. وهكذا نجده يقبل الدعوة للانتقال إلى بيت العمدة، ويقبل كل الهبات والرشاوى التي تقدم إليه. ويمضي اكثر من ذلك في الاستفادة من هذه الوضعية، ويبدأ بمغازلة زوجة العمدة اللعوب، في الوقت الذي يتقدم إلى خطبة ابنة العمدة الحسناء. ولعل «أجمل» ما في هذا كله هو أن خليستاكوف بعدما يقبل هبات الرسميين أبناء السلطة من الذين يخيّل اليهم انهم برشوتهم إياه يكسبون وده ويجتنبون غضبه، يقبل في الوقت نفسه، الرشاوى التي يقدمها إليه تجار البلدة وأعيانها، من الذين يأتون إليه، أصلاً، شاكين باكين من معاملة الرسميين لهم وإجبارهم إياهم على رشوتهم. وإذ تمضي الأيام القليلة، يجد الشاب نفسه وقد جمع ثروة لا بأس بها، وحقق أموراً لم تكن متوقعة. وهنا إذ يخشى مغبة انكشاف أمره، وبعد أن يحدد الغد موعداً لعرسه مع ابنة العمدة، نراه يستأجر أفضل عربة في البلدة، ويسافر بها «لبعض شؤونه» كما يخبر مودعيه، واعداً بأن يحضر في اليوم التالي لكي يطلب يد عروسه رسمياً ويتزوجها. وبعد غيابه يحدث لرجل البريد في البلدة أن يفتح رسالة كان خليستاكوف كتبها، واصفاً فيها بالتفصيل مغامرته تلك، «في البلدة الساذجة الفاسدة السخيفة». وبعد ذلك، إذ يجتمع أهل البلدة وأعيانها في لقاء ما قبل العرس، يقوم رجل البريد بفضح ما في الرسالة، وبالتالي حقيقة الشاب المحتال. وهنا يصاب الحاضرون بالذهول، ويبدأون بتراشق الاتهامات والشتائم في ما بينهم. وفي ما هم، وسط ذلك كله، يدخل دركي ليعلن أمام الجميع وصول المفتش العام الحقيقي طالباً من الحاضرين المثول في حضرته. وهنا، كما لاحقاً في الأفلام السينمائية الفنية، جعل غوغول كل الشخصيات الحاضرة تجمد جموداً تاماً كما في لقطة ثابتة، من دون أية كلمة ومن دون أي حراك، فيما تهبط الستارة. حين كتب نيقولاي غوغول هذه المسرحية الساخرة كان لا يزال في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن ارتقى سلم المجد بعد. وهو ارتقى هذا السلم حقاً، بفضل «المفتش العام» على أية حال، إذ من بعدها صارت مسرحياته تقدم في شكل شبه منتظم طوال السنوات العشر التالية. غير أن الكتابة المسرحية لم تكن همّ غوغول وشاغله الوحيد. فهو اضافة إليها كتب الشعر والقصة والرواية، وأسس الكثير من صنوف الأدب، بما فيها الأدب الخيالي والاجتماعي والواقعي، الدرامي والساخر. ومن المعروف أن أعمالاً له مثل «المعطف» و»الأرواح الميتة» و»الأنف» و»يوميات مجنون» كانت ولا تزال تعتبر من روائع الأدب العالمي، وكذلك تعتبر روايته «تراس بولبا» مجلية في عالمها. ومع هذا كله لم يعش غوغول سوى ثلاثة وأربعين عاماً، مات عند نهايتها في العام 1852 في موسكو بعد فترة طويلة من الألم والمعاناة، ولكن أيضاً من التعرض لغضب - وربما كذلك - احتقار معاصريه من الذين كانوا معجبين بأدبه وطليعية هذا الأدب وتقدّميته، فإذا به يصدمهم جميعاً في آخر سنوات حياته بمواقف وآراء طغى عليها الحسّ الرجعي، بيد أن هذه حكاية أخرى لم تكن قائمة أيام كتب وهو في أول شبابه، هذه المسرحية التي سرعان ما طبعت الأدب والمسرح الروسيين بطابع لا يمحى. [email protected]