وقفت على المنصة المشرفة على عشرات الألوف من المناصرين ملتفة بساري اخضر وأرسلت صوتها الهادئ العميق عبر المكبرات الصادحة التي كانت تئز من وقت لآخر، خصوصاً مع ارتفاع صياح الجماهير: "صونيا لاو، ديش باشاو" او "هاتوا صونيا وانقذوا البلاد". والحقيقة ان وقفة صونيا غاندي على هذه المنصة لم تكن سهلة او متوقعة، فمنذ مصرع زوجها رجيف عام 1991 وهي تجانب التورط في العمل السياسي او حتى في النشاط الحزبي مع ذلك كان منزلها، الرقم عشرة في شارع جانبات في نيودلهي، ملتقى السياسيين، محليين وأجانب على حدّ سواء. ومن جهة اخرى تفيد استطلاعات الرأي الاخيرة انها تكاد توازي في شعبيتها مكانة رئيس الحكومة السابق أتال بهاري فاجبايي. خلفها على المنصة وقفت بريانكا، ابنتها البالغة من العمر 26 سنة، التي انطبعت صورتها في اذهان الهنود منذ وقفت رابطة الجأش قرب امها في مأتم والدها، وذكرت كثيرين بجدتها انديرا. وليس بعيداً عن الواقع ان تكون بريانكا املاً هندياً مؤجلاً. وهي ابنة اسرة حكمت الهند طوال 38 من 50 سنة عمر استقلالها. ويذكر احد المقرّبين من أسرة غاندي ان بريانكا "تعشق الجماهير"، واصفاً قامتها الطويلة وقيافتها بأنها شديدة الشبه بجدتها الراحلة انديرا. اما في الوقت الراهن فالانظار متجهة نحو صونيا 51 سنة التي تحاول اعادة الحياة الى حزب المؤتمر لتوحيد صفوفه قبيل الانتخابات المقبلة. صورتها ارتفعت مع صور المهاتما وأنديرا وراجيف على يافطة طولها 20 متراً. تهددها الرياح الموسمية القوية بقدر ما هددت رياح الصراع السياسي الحاد الراحلين الثلاثة الذين ماتوا قتلاً من قبل. ولعلّ الهدف المركزي في تحرّك صونيا بعد تردد طويل وصمت مشهور ان حزب ائتلاف جناتا الهندوسي المتعصب آخذ في توسيع رقعة سيطرته. واحتمال وصوله الى السلطة مرّة اخرى بات وارداً بقوة. ويذكر ان جناتا يدعو الى التسلّح النووي وتجريد المئة مليون مسلم هندي من حقوقهم الدينية وتفرّدهم الوطني. وكان جناتا وراء الهجوم المشؤوم على مسجد ايودهيا عام 1992 ما أدّى الى تدميره وبالتالي سقوط ألفي قتيل في الاضطرابات اللاحقة. عملياً ذلك هو التعصب الفادح الذي ستحاول صونيا تبريد اواره في الأسابيع المقبلة. ويتوقع المراقبون هنا ان تؤدي دورتها الى زيادة في انصار "المؤتمر" تراوح بين 30 و40 مليون صوت. وتقول صونيا: "في الاعوام الفائتة شاركت كل هندي متزن وعاقل تفكيره وألمه حيال ازمة الامة. وكان لا بدّ لي من التحرّك، لأن اسرتي تعودت ان تضع المصلحة العامة فوق الاعتبارات الشخصية، ولأن ذلك في اساس واجباتها". واقعياً بدأت خطوات صونيا تترك آثاراً ايجابية داخل الحزب على الأقل، فهذا الاسبوع تراجع عن استقالته من عضوية "المؤتمر" بهاسكارا راو الذي شغل منصب رئاسة حكومة ولاية اندهار باراديش وكان اعلن عن رغبته في اللحاق بكثيرين ممن غادروا عضوية الحزب بعد انتمائهم اليه لأكثر من ربع قرن. ويقول راو: "قرار صونيا غاندي بالتحرّك جعلني ابقى". التقى راجيف بصونيا اواسط الستينات عندما كانا طالبين في جامعة كيمبردج. كانت في الثامنة عشرة من عمرها. ابنة مقاول في مدينة لوسيانا الصغيرة ضمن مقاطعة فينيتو. وكان هو حفيد جواهر لال نهرو، اول رئيس حكومة للهند. تزوجا عام 1968. وفي البداية وجدت الفتاة الايطالية نفسها دائخة دائمة الغثيان ومشمئزة من الحياة الهندية المحتشدة بالروائح القوية والجموع. وبما انها لم تكن تعرف اللغة ازداد ضيقها حين لاحظت كيف يحدق فيها الجميع بلا انقطاع. ولعلّ أول كلمة تعلمتها "باهوراني" كانت تعني الكنّة في المنزل، لكن ارادتها في الانضواء التام ضمن التقاليد ونجاحها المذهل في تعلم اللغة الهندية المعقدة اضافة الى دعم غير مشروط من حماتها الراحلة انديرا، عناصر اولية ساهمت في كسبها احترام الحزب والعامة على السواء. في تلك الاثناء كان واضحاً ان الرغبة الأولى لدى صونيا الاحتفاظ بزوجها وأسرتها خارج السياسة. ولذلك جرى تجيير الدور السياسي الى سانجاي الابن الاصغر لأنديرا الذي حاول تطويق الانفجار السكاني باجبار ملايين الهنود على الخضوع لعمليات تعقيم جراحية كان معظمها رهيباً ومن دون بنج. وبعد مصرع انديرا لجأ الحزب الى راجيف الذي انصاع مكرهاً وعلى رغم ارادة زوجته: "رجوته وتوسلت اليه" تكتب صونيا في كتابها راجيف وتضيف "وقلت له سوف يقتلونك ايضاً". في 21 ايار مايو عام 1991 وصل راجيف الى بلدة صغيرة في الجنوب تدعى سري بيرومبودور. تقدمت منه امرأة. ناولته عقد زهر وانحنت لتلمس قدميه كما هي التقاليد، لكنها انفجرت بما كانت تحمله من متفجرات. والأسبوع الماضي وصلت صونيا مع ابنتها بريانكا الى البلدة نفسها ووقفت على المنصة في وسط الساحة قائلة: "ها انني اقف على التراب الذي قدّسه دم راجيف". غنيّ عن القول ان لحظات دراماتيكية كهذه من شأنها ان تلهب العواطف وترص الصفوف، غير ان الواقع السياسي في الهند، على رغم خضوعه احياناً للعاطفية المبالغة، اكثر تعقيداً مما قد يصوّره زبد هذه اللحظات. فبالاضافة الى كونها غريبة عن البلاد اصلاً وفصلاً، ومجيئها المتأخر الى الحلبة السياسية، هناك عوامل عميقة تجعل وصولها الى السلطة مستحيلاً في المستقبل المنظور اهمها ان فضيحة صفقة السلاح بين الهند والنروج، ما زالت تشي بتورط راجيف في ترتيب العمولة الفائضة لصديقه الصقلّي اوتافيو كواتروتشي. لكن التبدل الجوهري في الخريطة السياسية خلال الحقبة المنصرمة، وما ظهر من تعصب هندوسي، من شأنه ان يضع العصيّ الاغلظ في عجلة صونيا السريعة العطب. "المهم" يقول المقرّبون "ان تنجح صونيا في جمع شمل الحزب وإعادة الحياة الى صفوفه وتنظيف كوادره من المحسوبية والفساد. كذلك ان تبقي القدر على النار، لعلّ ابنتها بريانكا ترث اللقب القيادي لبلد بدأ عدد سكانه يشارف الألف مليون".